"قُولّي كيف أمسيت دُمْتَ رايق" يا صديقي طه سورج. بقلم/ أمين محمَد إبراهيم. "إنا نغنيك لا نبكيك ترثيك القصائد". صديقي هل أتاك حديث النعي ؟ هل أتاك نبأ الرحيل الفاجع؟؟. تتداوله مختلف وسائط الاتصالات، فينتقل بين أهلك وزملاؤك و أصدقاؤك و معارفك الكثر، فينتشر في لمح البرق، منطلقاً من القاهرةوالخرطوم، إلي أركان الدنيا الواسعة، و أصقاعها القريبة و البعيدة، فإذا بالأرض تتشح بسواد الحداد، و الوجوه يكتسيها الأسى و الوجوم، و النفوس يلفها الجزع والالتياع، و تملأها الحسرة و الأسف، و إذا بالحزن الممض، يعصف بجذور القلب عصفاً. ألا ما أعظم الفجع، و أفدح فقدك يا "صديقي طه سورج" ؟؟ برحيلك الفاجع الحزين، تملكنا نحن، خاصة زملائك و أصدقائك، إحساسٌ طاغ بخلو دنيانا، من أحد أهم عناصر كيمياء تكوينها، و داهمنا شعورٌ كثيف، بأفول جزءٍ عزيزٍ، من إشراقات حياتنا، و أنضر و أجمال لحظاتها. و تمثَلتُ، تحت وطء احساس الفقد المقيم، قول الشاعر محمود درويش: " أمشي وحيداً في بلادٍ تسرقُ الأسماءَ مِنّي". وليت بلادنا اكتفت، بأن تسرق منا، الأسماء فقط، و لم تتعداها إلي سرقة، أنبل و أروع الأصدقاء و تغييبهم!! "بدَلت كيف سعة الحياة بضيق لحد؟؟" هكذا خاطب صديقي المبدع الراحل حميد، توءم روحه وإبداعه معاً، و زميلنا و صديقنا المشترك، المبدع الراحل مصطفى سيد أحمد، معاتباً إياه على رحيله الباكر والفجائي، الذي يستعصي حتى اليوم على التصديق. فأسمح لي هنا أن أخاطبك مستعيراً، لسان صديقنا حميد، و أسألك ذات السؤال، و أنت تتسلل مسرعاً، هكذا بغتةً، من سعة الحياة، دون انتظار الأجوبة، على استفهاماتك الكبيرة، التي كنت تطرحها دوماً، و دون كللٍ أو مللٍ علينا وعلى الذات معاً، آناء الليل و أطراف النهار،. فمن لفجر البشريات و شموس الانتصارات، حين تهل و تشرقُ؟؟، أقول من للصباحات الوضيئة القادمة؟؟ يامَنْ كنتَ تستشرفها، ليل نهار، بوعي سديد و بصيرة نافذة. و مَنْ بعدك لصد غائلة الأحزان عني ، يا من كنتُ ألجا إليه، في عتامير الغربة، و صحراواتها الجرداء، و عند الملمات و النازلات، كلما فجعتني الأيام، برحيل صديقٍ مشتركٍ، أو أحد أعلام الفكر و الرأي و الاستنارة في بلادنا، لنتبادل العزاء و المواساة. و من بعدك لمواساتي يا من كنت أهرع مروَعاً و مرتعداً إلي هاتفه، فيضمد كل منا جراح الآخر. و لكني هذه المرة، أقف أمام رحيلك، كسير القلب مشتت البال، و كسيف الخاطر حزيناً باكياً، بقلب واجف و صوت راعف. و لا أدري من أين أبدأ كتابي إليك، صديقي طه سورج، يارفيق الصبا و الشباب و بواكير الشيخوخة. "لم يعد في العمر ما يكفي، فهل يكفي الكتاب"؟؟ أطرح ذات السؤال الذي طرحه، ذات أسىً مشابه و لوعة مماثلة، الراحل محمود درويش. ولكني أقر الآن، بأنني لا أقوى، على الإجابة عليه. ألا ما أشق و أقسى، الكتابة عن رحيل، إنسان مثلك محتشدٌ بأسمى قيم و معاني الإنسانية، و مصنوعٌ من رغوة النبل الخالص. و ما أفدح فقد إنسانٍ استثنائيٍ، من معدنٍ نادرٍ مثل معدنك، قلما يجود بنظيره الزمان. لم يخطر ببالي يوما، أن سأكتب ما لن تقرأه، دَعْ عنك أن أكتب عن رحيلك، الذي يمثل عندي، رحيل أنضر و أجمل سنوات عمري، المترعةٌ بذكرياتنا، و بطيب أمانينا و أحلامنا المشتركة، المُفعمَةٌ بفيض الاشواق، إلي غد الوطن المشرق. فهل كُتِبَ عليّ حقاً، أن أكتب عن نزيف أوسم الأصدقاء، و رحيلهم تباعاً، واحدهم في إثر الآخر، و منهم الراحلين: نجم الدين و عطا كرم الله و الشاعر حميد و أستاذنا عوض فضيل و عمر فتيحابي و مرغني الشائب، ثم أخير اًنت يا صديقي طه؟؟ في ملابسات رحيلك المحزن، يخامر عقلي الآن، يا صديقي طه سورج، إحساسُ عميقٌ و كثيف، بأن وطنك الذي شغل قلبك "الواهن"، و مثَل هاجسك الذي ملك عليك، أقطار خيالك و فكرك حياً، هو ذاته ما شغل قلبك و تفكيرك، و أنت في البرزخ، بين عالمنا الفاني، و عالم البقاء و الخلود. و أكاد أجزم الآن، أنه لو أتيحت لك وقته، فرصة النطق بسؤال واحد، لوجهته له دون تردد، مستعيراً لسان عاشق الوطن، المتيم بحبه، الشاعر الفذ، خليل فرح: "قُولّي كيف أمسيت دُمْتَ رايق دام بهاك مشمول بالنظام". و تحضرني الآن طقوس تجوالك، في بستان الخليل، "حافي حالق" من فرط إعجابك به وتعلقك بشعره ، و ترديدك الدائم لروائعه عامةً، و أذكر على وجه الخصوص، جريان البيت أعلاه، على لسانك كثيراً، فيما يشبه المناجاة، و بحب و خشوع يقارب خشوع المرتل المتبتل. و هل كان تعلّقك بحب الخليل، و احتفاؤك بالصدق و التجرَد في شعره، لسببٍ غير تعلق، قلبك بحب ما أحب الخليل، و أجزل له العطاء المبدع. و ما كان ذلك كله، إلا في سياق اهتمامك و انشغالك، بالإبداع عامة أدباً كان أم شعراً أو خلافهما. مع حفاوة و حماسة ظاهرة للمتعلق منه بقضايا الوطن ، على وجه الخصوص؟؟ إذن لم يكن غريباً، أن قد نظرت إلي الوطن، بنفس منظار الخليل، و ليس غريباً، من ثم، ألا تريان منه شيئاً، سوى روعة حسنه، و بهاء وجهه المشرق. وقديما طالب المتنبئ، من انبهرت بروعة شعره، متحدياً: "جِدّي مِثْلَ مَنْ أحْبَبْتُ تَجِدِي مِثْلِي!!"، بجامع التعذَر أو الاستحالة في كلٍ. فطوبى لوطنٍ جميلٍ، ألهم الخليل شعره العبقري، وشكرا لشعبٍ أعطانا أمثالك، مِمَنْ يتخيَرون مِن الفكرِ أوسمه و أعظمه، و من المواقف أنبلها و أجسرها، و مِمَنْ ينتقون من العمل أحسنه، و من القول أروعه!!. لا زلت لا أدري، كيف أبدأ خطابي إليك؟؟ و من أين أبدأ؟؟ هل أبدأ من أراك "ود سورج"، مسقط الرأس و مرتع الصبا. تلك البقعة المباركة، الموصوفة عند أهل مركز مروي، في ذلك الزمان الأخضر، ب "موسكو"؟. وما وصفوها هكذا، إلا من فرط تمتع أبنائها، بالوعيِ و الاستنارة و الجسارة، مع استقامتهم على الحق، و تدافعه لمناصرة المظلوم، والزود عن حقوق الكادحين في الأرض. و اشتهر هؤلاء بانحيازهم المطلق، و غير المشروط أبداً، لقيم الحرية و التقدم و العدالة. و المدهش أن أغلبهم و من فرط سخاء نفوسهم، قد بلغوا بتدافعهم و حماستهم لانحيازهم، درجةً من التجرَد، دفعت بهم إلي الإخلاص والعطاء الجزيل، و بذل المستطاع له، حتى دون التقيَد، بما يفرضه على غيرهم، من تضييق الواسع، و تأطير الذات في أُطُرْ و مواعين تنظيمية، تكبل الإرادة الحرة. و هكذا كانوا و ما زالوا روَاد استنارة، و مناضلين تقدميين بالفطرة و الوراثة، و باستقلال عما يقيّد الإرادة الحرة من قيود معلومة، بل من مضارب أهاليهم، ذوي الأصول الباذخة، و الجذور الراسخة، بأراك " ود سورج" مرموزاً بها إلي الوطن الكبير. و تومض في خاطري، أسماء بعضهم كالدرر و اليواقيت، أذكر منها، مثالاً دون حصر، الراحلين: خليل سورج، و عبد العاطي محمد السيَد "القائد النقابي" والزميل و الصديق علي سورج وشخصك الماثل في خاطري، و أنتم جميعاً حضورٌ، في الذاكرة رغم الغياب، وملء الأسماع و الأبصار و الأفئدة. و أذكر من الأحياء – مدَ الله في أعمارهم و أبقاهم– الأعزاء: طه محمَد طه سورج، والدكتور مصطفي سورج، و العوض محمود وعبد الرؤوف و عبد المطلب وغيرهم و غيرهم و القائمة تطول يا صديقي. أم هل ياتُرى، أبدأ من بورتسودان الثانوية، حيث التقينا (1969- 1970م)، أي قبل ما يربو على أربع عقود، و نحن في ميعة الصبا و شرخ الشباب، و طاقاتهم الفوارة، مقبلون بحيوية الشباب الموَارة، على الحياة بطولها و عرضها، و بكل عنفوان أحداثها، و صخبها و ضجيجها. تدفع مراكبنا الآمال الكبيرة، و تحفها البشائر و الطموحات العظيمة، تمخر بنا عباب بحر الحياة بأمواجه المتلاطمة الصخابة، تملأ أشرعتها رياح تمرد الشباب و ثوريته، النازعة إلي التغيير، وصياغة الدنيا الجديدة. كنا وقتها يا صديقي، نتدافع للأمام بالمناكب، صدورنا مكشوفةٌ و أعناقنا مشرئبة، و أبصارنا شاخصة، إلي الأفق الممتد بغير حدود، تسبح في فضائه الفسيح، لتعلق بأسطع الأقمار و ألمع النجوم " لننتضي صدر السماء لشعبنا"، كما في قول شاعرنا المبدع محمَد المكي إبراهيم. و على ذكر أيام بورتسودان، أسمح لي، أن أطلق العنان لخواطري، هذه الباكية الحزينة، لتتداعى كيفما اتفق، أو حسبما يُلِحُ عليها شريط الذكريات. أذكر منها مثالاً دون حصر، أنه و ذات مساء، كنا فيه عائدين، من سينما الخواجة، إلي داخليات المدرسة، بعد مشاهدة فيلم العرض الثاني، الذي ينتهي عادةً، بعد منتصف الليل. كنا نتسيَد الطريق، سيادة تامة، بهرج صخبنا و ضجيجنا المعتاد ، بعد أن هدأت المدينة و انقطعت الحركة في شوارعها. و نحن على مشارف المدرسة، وعندما صرنا بمحاذاة، حوش كبير، ملك السادة المراغنة، يفصله الشارع العرضي، المار أمام المدرسة، و يمتد حتى بداية السوق، كان نظام عسكر مايو، قد صادره حديثاً، و طليت جدرانه الممتدة، بطلاء أبيض ناصع. و فجأةً قطع صوتك هرج ضجيجنا و صخبنا ، فوجدناك تحدق بشقاوة و دهاء و مكر، في حائط الحوش الممتد أمام ناظريك، بطلائه الناصع، صائحاً: " من دي الحِيّطْ"!! و لم تزد حرفاً، و هل كنا نحتاج إلي ثمةَ زيادة!! ففي عبارتك القصيرة، كمنت بلاغة ما بعدها بلاغة، و إفاضة ما بعدها إفاضة. و في قول البلاغيين، أن أقصى درجات البلاغة، هي اتساع المعنى مع ضيق العبارة. و سرعان ما أخذت عبارتك ، بجماع أفئدتنا و عقولنا، بدلالاتها و مغازيها الموحية، لتوجهها كالبوصلة، إلي فكرة واحدة لا غير، ألهمتنا إياها صيحتك. فتفرقنا في لمح البصر في أنحاء الداخليات، لنعود بعد قليل، بكل ما نحتاجه، من أدوات تنفيذ الفكرة. و بعد ساعة من الزمن تقريباً، كنا قد ملأنا جدران ذاك الحائط، بالشعارات تطالب بالحرية و الديمقراطية للشعب، و تندد بحكم العسكر الدكتاتوري الغاشم المتسلط، و خلافها من شعارات الحض و التحرِيض على مقاومته و إسقاطه. و عدنا إلي داخلياتنا بسلام. ما فعلناه ليلتئذٍ، كان حديث المدينة، صباح اليوم التالي و لأيام تلته. و أصبحنا بعد ذلك، نتبادل النظرات الماكرة المعبِرة، كلما مررنا بجدار مطلي حديثاً نردد صيحتك "من دي الحِيّطْ". و منذ لقائنا على مقاعد الدرس، بمدرسة بورتسودان الثانوية، لم نفترق أبداً، فانتقلنا منها سوياً، إلي كلية القانون بجامعة الخرطوم. ثم انتقلنا من الجامعة، إلي الحياة العملية. حيث التحقت أنت بالهيئة القضائية، و كانت محكمة مروي محطاتك الثانية بعد محكمة كادوقلي. و التحقت أنا بمكتب أستاذنا الراحل شمس الدين اللدر، إلي جانب صديقنا الراحل معتصم مدني. ثم انتقلت من الخرطوم إلي كريمة، لألتحق بمكتب شقيقي وأستاذي، و صديقنا المشترك مصطفى. لنلتقي مرة أخرى، في خضم أحداث الحياة، بتقلبات دورانها مداً و جزراً، صعوداً و هبوطاً. و لم نكن طوال هذه المراحل، مجرَد زملاء دراسة أو مهنة، أو محض صديقين متلازمين فحسب، بل كنا متشابهين في كل شئ تقريبا، في الأفكار و الرؤى و الانتماءات، و حتى الاهتمامات والهوايات ..الخ، و لا أبالغ إن قلت، أننا كِدنا في هذا الصدد، أن نمثل بعدين لشخص واحد، أو قل تجليين لكينونة إنسانية و احدة و هي ظاهرة فريدة على أي حال. فما حدث طوال، هذه الصداقة الممتدة لعقود، أن و جدنا أنفسنا مختلفين أو متناقضين تناقضاً أساسياً أو جوهرياً، في شئ أو حوله، رغم أن مثل هذا الاختلاف، مما يألف وقوعه، حتى بين الإخوة و الأقارب. و لا ينفي تشابهنا في كل شئ تقريبا، حقيقة انفراد كل منا بخصائصه المائزة، كأمر منطقي و طبيعي. بيد أنك، تميَزتَ يا صديقي عنا جميعاً، بذهولك التام عن همومك الذاتية الخاصة، و الالتفات عن التفكير فيها، و الزهد عن مشاغلها، و لو في أضيق نطاق، كالزواج و تكوين الأسرة. و رغم محاصرتنا لك و تضييقنا الخناق عليك، لدفعك دفعا لإيلاء هذه الأمور، ما تستحقه من الاهتمام والنظر ، كضرورة إنسانية و اجتماعية لا غنىً عنها، إلا أن كل محاولاتنا معك، في هذا الشأن، قد باءت بالفشل الذريع، و ذلك من فرط تمسكك بقناعتك. و لكنك آثرت أن ترد، حججنا و أسبابنا برفق، دون أن تفصح لنا، أنك كنت تخشى، ان يزاحم قلبك في حبك الكبير، للوطن و شعبه، حبيب آخر، أو أن يشغلك، عنهما أي شاغل آخر. فأورث هذا الحب الكبير، قلبك العلة المميتة، كما أورثه من قبلك قلوب أوسم أبنائه و أبرَهم به، أذكر منهم، مثالاً دون حصر، التجاني يوسف بشير، وخليل فرح، و من جيلنا بل من أصدقائنا المشتركين، مصطفى سيد أحمد و حميد حسن سالم. و عندما حلَ ليل 30 يونيو 1989م الحالك الظلام، و أعلن عسكرها "عهدهم الغيهب" بتعطيل العمل بالدستور، و حل البرلمان، و إعلان حالة الطوارئ، و تشكيل محاكم النظام العام العسكرية، لم تتردد لحظةً، في الصدع بالحق في و جه سلطان جائر. بل بادرت مع رفاقك القاضي الربحق المواطنيناي و القاضي عبد القادر محمد أحمد، و غيرهم من القضاة الشرفاء ، لتقودوا حملة تجميع توقيعات القضاة، لرفع مذكرة ترفض و تستنكر، إجراءات طغمة عسكر، ما عرف بالإنقاذ الوطني، و تفضح بطلان حكمها و عدم شرعيته، و ترفض إبطال العمل بالدستور، و إعلان حالة الطوارئ، و تشكيل المحاكم العسكرية الاستثنائية. و طالبت مذكرتكم بعدم المساس بحق المواطنين في المحاكمة أمام قضاتهم الطبيعيين، و بالكف عن انتهاك الحقوق الدستورية والقانونية للمواطنين. كان الرد فورياً، فوضع اسمك و اسم زملائك في أول قائمة للقضاة المفصولين من الخدمة، تحت مسمى الصالح العام، وهو مسمى مقصود به، إفراغ القضاء من أمثالكم من القضاة الشجعان، ذوي الاستقامة والشرف و الضمير الحي، توطئةً لحجب استقلال القضاء، و إخضاعه التام لإرادة النظام الحاكم، ليأتمر بأوامره. لم تكتف إدارة القضاء، بتنفيذ أوامر السلطان الغاشم، بفصلك من العمل، بل لاحقتك بإيعاز منها أيضاً في مهنة المحاماة. و أذكر كيف أن رئيس القضاء و قتها، وإمعاناً في معاقبتك، على موقفك المعلن من النظام، و نزولاً على رغبة أولياء نعمته، قد حجب عنك سلطة التوثيق لسنوات، بعد نيلك ترخيص المحاماة، وهي السلطة التي كانت تمنح قبل ذلك، للقضاة – بالذات – مِمَنْ قضوا في الخدمة أقل من ثلث "1/3" مدة خدمتك.. وبدأ بعد ذلك مسلسل الاستهداف المباشر، و الملاحقة والاعتقال و التعذيب، في بيوت الأشباح، و التهديد والوعيد. ولكن خاب فألهم فقد ثَبْتَ على مبادئك العظيمة لا تتزعزع، و لا تتراجع خطوة و احدة، عما آمنت به من قيم جليلة، و منها استقلال القضاء و حيدته و نزاهته. فصدعت بالحق، في وجه سلطان جائر، حينما سكت غيرك، و تمسكت بسيادة حكم القانون و ما يؤكده و يعززه، من ضمانات دستورية أخرى ملازمة له، و استقمت على صراط المبدئية و الجسارة، حينما اصطكت رُكَبِ غيرك، و خارت عزائمهم، فوالوا النظام الحاكم، و تبعوا باستكانة و ذِلّة، سلطته المستبدة، و تنكَروا للضمير الحي، للقاضي الشجاع والعادل المنصف، و ائتمروا بأمرها الباطل من كل الوجوه. و هكذا وقفت أنت و زملاؤك كالأُطواد الشامخة، تزودون عن حياض استقلال القضاء و حصانته، غير هيابين و لا و جلين، بينما فرط في ذلك غيرك، وجعل القضاء، تابعاً ذليلاً للنظام و أجهزة قمعه. و لا يسعنا يا صديقي، إلا أن نتقبل حقيقة رحيلك عنا، بأصدق آيات الإيمان، بالله و كتبه و رسله و اليوم الآخر، و الرضاء المطلق بسنته الله في خلقه، و التسليم التام لقضائه وقدره، و عزاؤنا أنك كامل الحضور، لا و لم و لن يكتنف وجودك غياب، سوى مظهره المادي الجسدي. و لاشك أن الموت حق، و سبيل الأولين و الآخرين، بل هو سنة الوجود النافذة و الماضية، كأحد تجليات جدل الحياة و نقيضها – وجهها الآخر- الدائر بين وحدة و تضاد عناصرها، بالميلاد "البقاء" و النفي "الفناء" و نفي النفي .... الخ سيرورة تغيَر و تقلَب، أطوارها المتعددة، و فق نواميس التطوّر السرمدية و الأبدية. أما ذكراك العطرة، و سيرتك الطاهرة، و خصائصك النادرة و المائزة، و نبلك المشهود، و مآثرك العظيمة، فباقية ما بقي فينا قلب ينبض و ما بقيت الحياة. لأنك في واقع الأمر، عصي على الغياب والنسيان. لذا فرحيلك لا يعدو عندنا، كونه الوجه الآخر، لحياتك العامرة بالانتماء إلي غِمَارِ الناس، و حب الخير لهم، والعمل بجِدٍ و طيب خاطر لإسعادهم. فلا غرو إذن، أن يظل، و هج حضورك المعنوي، البهي و الطاغي، يشخص ماثلاً و مُجسماً، في خاطر و ذاكرة و وجدان، كلَ من عرفوك، مؤكداً و معززاً، ظاهرة بقائك خالداً مع الخالدين، من أبناء شعبك العظيم، و هو خلودٌ ينفي غيابك نفياً تاماً. فمثلك لا يموت، بل يبقى و يظلُ دائماً، ملء السمع و البصر و الفؤاد. أصدق العزاء يا صديقي، لكافة أهلك السورجاب، و آل الشيخ و د إبراهيم، بعموم السودان و المهاجر. والعزاء لكافة زملائك و أصدقائك و معارفك الكثر. و نبتهل إلي العلي القدير، أن يلهمهم و إيانا، حسن العزاء والصبر الجميل، و نسأله أن يتغمَدك، برحمته التي وسعت كل شئ، و يسكنك فسيح جناته، مع الشهداء و الصديقين، و حسن أولئك رفيقا. إنه رحيمٌ غفورٌ، سميعٌ مجيبٌ للدعوات.