[email protected] يقدم السيد مبارك المهدي في كتابه (ماذا جرى: أسرار الصراع السياسي في السودان)، أسانيد وفيرة من معلومات صلبة وقرائن وموجهات وتحليلات تؤكد ان انقلاب الجبهة الاسلامية القومية في يونيو 1989 لم يكن وليد الظرف السياسي أو التطورات التي تمخضت عنها واستولدتها مرحلة ما بعد انتفاضة ابريل 1985، كما يروج عند كثير من كتاب ومؤرخي وقدامي السياسيين في الحركة الاسلامية، وانما تم التخطيط والتدبير لانفاذه منذ وقت طويل يسبق تلك المرحلة بمراحل! استرعت انتباهي واستوقفتني من بين الأدلة التي يدعم بها صاحبنا مستخلصه هذا شهادة من شخصية لا تُرد شهادتها، وهي الرئيس المشير عمر حسن أحمد البشير إسماً وذاتاً وعينا. إذ يكتب الحبيب مبارك: (ذكر لي الرئيس عمر البشير أنهم كانوا قد قرروا القيام بالانقلاب قبل مشاركة الجبهة الاسلامية في الحكومة، ولكنهم عند مشاركة الجبهة طلبت منهم قيادتها تأجيل الانقلاب. ويعني ذلك ان الانقلاب لا يرتبط بقضايا عام 1989 تحديدا بل انه مرتبط أصلا برغبة قديمة في وأد الديمقراطية والانفراد بالسلطة). حرصت على ابراز ما تقدم على الرغم من ان هناك ما هو اجود منه في مضمار الحجج التي حاجّنا بها مبارك في هذا الفصل، لماذا؟ أولا لجودة شهادة الرئيس البشير، ثم، قبل ذلك وبعده، لأننا في الواقع لا نحتاج أصلا الى أية أدلة او حجج في هذا المورد. والسبب هين. لعله من أهون الأسباب. إذ أن ما بذله حبيبنا مبارك من معلومات وتحليل هي في الواقع من تحصيل الحاصل في ضوء إفادات ساطعة للشيخ الأكبر، صاحب فكرة الانقلاب ومدبرها ومفجرها، المغفور له الدكتور حسن الترابي، في حواره المطول مع الاعلامي المصري احمد منصور والذي بثته قناة الجزيرة على حلقات بعد وفاته. وقد أكد الترابي نفسه، وبعظمة لسانه، أن فكرة الانقلاب والاستيلاء على السلطة بالقوة عند الاسلاميين عريقة وضاربة في القدم، ولم تكن وليدة الثمانينيات. ذلك حديث الإمام الملهم، فما حاجتنا الى أحاديث المأمومين؟! وسأغامر بالقول بأنني في معتقدي الشخصي كمحلل سياسي، وكإنسان يزعم لنفسه معرفة واسعة بالناس والحياة وقدرة على استبار اغوار صناديق البشر (يُقال في بعض أجزاء السودان: "الوجوه خناجر والناس صناديق"). ثم كرجل عرف الترابي عن قرب ولازمه وراقبه مراقبة لصيقة لفترة زمانية مقدرة، أقول، وبالله التوفيق، أن الدكتور حسن الترابي كان يتطلع، تطلعا شخصيا، لتولى رئاسة السودان، وان الرئاسة كانت حلم حياته الذي عاش لاكثر من ثمانين عاما ولم يتمكن من تحقيقه. الانقلاب والاستيلاء على الحكم فكرة أصيلة عنده، ولدت وترعرعت داخل عقله الجبار، فأوحى الى غيره بطرحها وتبنيها. وفي علم العالمين من اهل القربى ان تسخير الآخرين لتبني افكاره وانفاذها كانت خصيصة عبقرية راكزة عند الرجل. وفي سفر الحبيب مبارك اشارات واضحة تعزز عقيدتي هذه. من ذلك ما رواه من ان القيادي والرمز الحركي الاسلامي التاريخي عثمان خالد مضوي جاءه سرا بغية ان يتعاونا فيوحدان جهودهما لإعادة الجبهة الاسلامية الى الحكومة بعد ان كانت قد انسحبت منها عقب احدى الهزات السياسية عهدذاك، وما أكثرها. ولكن مبارك استبعد نجاح مثل ذلك المسعى، على أساس انه يعرف الترابي وطرائق تفكيره. لماذا استبعد مبارك عودة الترابي الى الحكومة بمشاركة الأمة والاتحادي الديمقراطي؟ يقول مبارك لمحدثه عثمان خالد مضوي: (الترابي كان النائب الاول لرئيس الوزراء ووزير الخارجية، وكان "مستمخ" لذلك الوضع. الآن بعد رجوع الاتحادي للحكومة سيكون هو النائب الثاني ووزير العدل. وأنا ادرك انه كان مشدودا للوضع الاول، ولذلك لن نستطيع اقناعه بالوضع الثاني). يا سبحان الله! طيب، هل استنكر عثمان خالد مضوي، رفيق العمر الطويل للترابي وصديقه الذي يعرفه كظهر يده، هذا القول من صاحبه مبارك؟ هل قال له: حاشا وكلا، الترابي شيخنا رجل مبادئ لا يأبه للمناصب وبريقها وانما يعمل الاعمال لله لا يرجو ان يكون للبشر منها نصيب؟ أبداً. لم يقل مثل ذلك الكلام ولا حتى ما هو قريب منه في المعنى. ولو أنك، أعزك الله، تريد ان تعرف ماذا كانت إجابة الشيخ عثمان فلا بأس. غالي والطلب رخيص. قال الرجل موجها خطابه لمحدثه مبارك: (وطيب انتو لما عارفين أنه مشدود لوزارة الخارجية ما تدوها ليهو)! كلنا قرأ تلال الكتب والكتابات بعد المفاصلة الشهيرة عندما انبهلت كل أسرار الحركة الاسلامية، أمام أقدام السابلة في الطرقات. وهناك عرفنا ان الشيخ الترابي ذهب بقدميه الى الرئيس عمر البشير، وقدم له اسمه، اي اسم الترابي، ليكون نائبا اول لرئيس الجمهورية خلفا للمغفور له اللواء الزبير محمد صالح (اتفقت الجماعة على ثلاثة اسماء تقدم للرئيس، وهي: على الحاج، وعلى عثمان محمد طه، والدكتور الترابي نفسه، ليختار البشير من بينهم من يشاء). ولكن الرئيس عمر البشير اعتذر عن تعيينه، وقال له: "انت شيخي ولا يمكن ان تكون نائبا لي"! وتلك لعمر الحق من أغرب الغرائب. إذ كيف خطر لمفكر وزعيم وقائد بحجم وقامة الترابي أن يذهب الى الضابط الذي كلفه بقيادة الانقلاب وان يطلب منه ان يعينه نائبا له؟! أن لم تكن تلك شهوة الحكم والشغف بالسلطة والرغبة العارمة في الوصول الى الرئاسة وصولجان السلطان، فماذا تكون؟! (نواصل)