فتاة بطعم وطن ورائحة ليمون ولون مظاهرة، أرسلت لي رسائل صوتية في بريد التواصل الاجتماعي بعد أن أمضت يومها بأمدرمان، تعرفت عليها في إحدى الأمسيات، وكانت تعمل عازفة إيقاع في كورال الثورة، ونادلة في إحدى المقاهي، في رسائلها القصيرة حكت عن شهامة النساء في أمدرمان وعن البيوت التي تفتح أبوابها لتقدم الماء الزلال لكل متظاهر وتقذف بالأحجار رجال الشرطة، كل ذلك إن لم يكن عادياً كان متوقعاً، ولكن قلبي توقف عن الحديث المباح وطار عقلي من الخفقان حينما ذكرت إنها كانت في وسط التظاهرة فإنقض عليها سرب من كتائب الحزب الحاكم التي كانت تعتمر لباس البوليس وتغش الناس حول هويتها كما اعتادت التطفيف في كل شي، وفجأة تحول السيل الهادر إلى مجارٍ صغيرة من المتظاهرين، ودلفت الفتاة إلى أحد الأزقة فوجدت رهطاً من الرجال يتبادلون الحديث بجدية ويستمعون إلى أحدهم الذي بدا شامخاً وسمح المحيا، وحينما رآها قطع حديثه ودعاها للاقتراب، كان أنيقاً في بنطاله الأسود وقميصه ناصع البياض وحذائه الأسود اللامع، صب لها كوباً من الماء البارد، إرتشفته بسرعة، هدأت دقات قلبها، لقد كانت جميلة النظرات، ووجهها ضاحك كشعاع من نور، نظرت إليه، بدا كأحد أخوالها أو فارس من عصر الروايات التاريخية، سألته عن اسمه بنفس السرعة التي كانت تردد بها الشعارات في المظاهرة، أجابها بلا تردد وبصوت رزين، عرفات محمد عبدالله، ولما كانت مكتنزة الثقافة، صاحت بأعلى صوتها حتى تجمع حولها المتظاهرون من جديد، وهتفت وصوتها يشق العنان قائلة له : لا أصدق! صاحب مجلة الفجر؟ أجابها: نعم، والذي يقف إلى جواري هو من حمل اللواء بعدي، هو صاحب مجلة الفجر الجديد، وأضاف قائلاً : لقد كنا في انتظاركم ثلاثين عاماً، ونحن لا نخرج من غيابنا الأبدي إلا لنستنشق هواء الوطنية. ثم طلبت منه أن يحكي لها حكايته، كانت تستمع إليه وقد التف حوله المتظاهرون والرهط الذين كانوا معه، قال لها: لقد ولدت في أمدرمان عام 1897م، وتخرجت من كلية غردون في عام 1916م، وعملت بمصلحة البوستة والتلغراف، وكان الذهاب إلى مصر أمراً شاقاً ولكن مع ذلك ذهبت، وكنت وكيلاً لجمعية اللواء الأبيض في القاهرة، وفي حارة الجداوي كنت ألتقي في المنزل رقم (14) بالطلاب السودانيين آنذاك، وساهمت بعدة أفكار لرعايتهم، وحينما أغتيل السير لي ستاك في نوفمبر 1924م في القاهرة اعتقلت وعشت ظروفاً صعبة وضنكة، ولكنني لم أتخلّ عن نشاطي الثقافي والاجتماعي والسياسي ولم أتخلّ عن جمعية اللواء الأبيض، وعدت إلى أمدرمان ولما غاب أصدقائي وزملائي حينما نصبت لهم المشانق وابتلعتهم المعتقلات ساهمت في تأسيس نادي الخريجين، وشاركت بإخراج وتمثيل مسرحيات عديدة في مدرسة أمدرمان الأهلية والأحفاد وملجأ القرش، حينما هزمت ثورة 1924م لم أستسلم، وأصدرت مجلة الفجر والتي صدر عددها الأول في الثاني من يونيو عام 1934م، وكتبت افتتاحيتها بعنوان (قُل هذا سبيلي) وقد ظل سبيلي، وقلت آنذاك " أما بعد فهذه صحيفتنا بين يدي قارئها فيها صورة صادقة بقدر ما يستطيع المرء أن يصور لمبدئنا الذي ندين به في خدمة هذه الأمة السودانية، وهذه اللغة العربية قبل كل شيء وبعد كل شيء" وكتبت أيضاً " إن الفجر تستمد مبدئها وصفتها من اسمها الذي أسميناها به، وآمالنا وطيدة في أنها ستكون فجراً صادقاً يتلوه صبح وضاح ونهار مشرق تنتشر لسعة شمسه الشافية فتقضي على جراثيم الجهل والعصبية والتأخر والجمود وتبعث فينا وفي أبنائنا وأحفادنا روحاً جديدة "، وها أنا ذا ألتقي بأحفادي في أمدرمان في 9 يناير 2019، وقد بعثت فيهم روح جديدة. تابع عرفات حديثه، لقد كنت مرهقاً وصائماً لمدة ثلاثين عاماً نزف فيها دمي وتقطعت بعض شراييني، ولكن قلبي ما يزال ينبض بالحياة، وعدت إلى أمدرمان من البراري البعيدة، والعود أحمد، وكانت روحي تهتف بحياة البلاد، وبحب الناس، وتحلم بعوالم جديدة، ولقد أسعدني أن اختار عبدالخالق محجوب ابن مدينتي والذي صادقني بعد أن رحلت أن يطلق على مجلته الفجر الجديد، وهي قبس من الفجر الذي بدأنا به، لم تثنني متاعب الحياة وطول الغياب من العودة مرة أخرى إلى أمدرمان، وفي طريق عودتي مررت بالساحة الخضراء والتقيت بجون قرنق الذي تحدث عن أشياء لم نتحدث عن بعضها في أيامنا تلك، تحدث عن التنوع المعاصر والتاريخي والمواطنة بلا تمييز، وغبت مرة آخرى وكنت كثير الغياب كثيف الحضور، وقبل أن تنضموا إلينا كنت أتحدث مع أصدقائي عن هذا الجيل الجديد، عن الشباب وعن النساء اللاتي أنجبن شباباً وشابات فارعات الجمال يستعملن عطر رابحة الكنانية ومهيرة بنت عبود ومندي بت السلطان وفاطمة أحمد إبراهيم، ووجدت شباباً وسيماً وثورة، ووجدت شوارع أمدرمان وأبواب المنازل ترحب بالضيوف العائدين من الغياب، ورأيت الشباب ينهلون من معين الشيوخ، فهزني الشوق وانهمر دمعي مدراراً مما رأيت. ثم واصل عرفات حكيه لفتاة التواصل الاجتماعي :هزني ما رأيت ومن فرط شوقي للأرض والناس مررت على كل بيوت الأعراس والقناديل مضاءة بدماء الشهداء والجرحى، ووجدت سرور وكرومة وإبراهيم عبدالجليل وعتيق وعبدالرحمن الريح وأبوصلاح وخالد أبو الروس والتجاني يوسف بشير وإبراهيم عوض واستمعت لغناء جيد واستطعمت خبزاً طاعماً من صنع الشباب، استعدت ذكرياتي قبل مصرع الإنسان الممتاز. السودان مخزن للوعي منذ تهراقا، وأمدرمان سليلة الوعي الذي يربط بين النهر والصحراء، ومن الوعي تنبثق الثورة، إن هذه الثورة تضم الجميع وإن كان لها ما تفتقده فإنها تفتقد (الجنوبي) الذي رحل من المدينة بعد تلك الاحداث الحزينة، هذه الثورة تشتاق لوجود الجنوبي، إن ما أعطى أمدرمان نكهتها ومدها بأسباب الحياة هي هجرات السودانيين غرباً وشمالاً ووسطاً وجنوباً ولا زالت تستقبل الهجرات بعد أن أضحت الهجرة بضاعة الريف الوحيدة نحو المدن، وقد جف ضرع الريف ومن وحي التمازج والهجرات نشأة الأشغال والحرف اليدوية ونهض العمال المهرة والممرضات والعازفين، ولدت أمدرمان من رحم التنوع السوداني وإن الجنوب الذي مضى لا يزال يسمر أقدامه في أمدرمان، فالجنوب يعيش في أمدرمان خلف أسوار الجغرافيا، وهو موجود في الثقافة والدم والتاريخ وامتداداته خلف الحدود، وأمدرمان موقع مثالي للوقوف ضد العنصرية والتعالي فالمدن التي نشأت على ضفاف النيل حملت السودان ثقافة ودماً وتاريخ، إن جميع المدن ستكون بوتقة لحركة حقوق مدنية جديدة تضم كافة أقوام السودان في عقد اجتماعي جديد قوامه السودانوية، إنا من التنوع ومن التراب وإلى السودانوية راجعون. قتلت الإنقاذ جزءاً ليس باليسير من الطبقة الوسطى ولكنها فشلت في تجفيف منابع الاستنارة وثقافة المقاومة، وها هو عرفات محمد عبدالله يلتقي جيلاً مشرئباً للعلا. وفي طريقه إلى حي الموردة وبانت قال عرفات محمد عبدالله إنني التقيت بالإخوان محمد وعبدالله عشري الصديق وأدهم وعبدالوهاب زين العابدين وخالدة زاهر وأنور زاهر، ثم مررت على الزعيم علي عبداللطيف، وكان برفقته صالح عبدالحميد وحدثني عما يدور في بري وأن الشباب هناك قد ارتدوا أحذية عبيد حاج الأمين. وواصل عرفات حكيه قائلاً: ثم عدت راجعاً وقادتني خطاي إلى حي العرب وفي طريقي مررت بأندية الهلال والمريخ ودور الرياضة وشاهدت فريق الموردة يلعب بتشكيلة جديدة ضمت كل السودانيين. في حي العرب دعاني التجاني الطيب بابكر لتناول كوب من الشاي، كان برفقته عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة، حدثوني عما جرى بعد أن أغلقت مجلة الفجر أبوابها، وناقشنا الدور الذي قامت به جماعة الهاشماب في أيامنا تلك، ودعتهما وفي الطريق مررت على الإمام عبدالرحمن المهدي ثم عرجت على منزل الزعيم إسماعيل الأزهري وأمضيت أمسية معه، وانضم إلينا عبدالله خليل ومحمد أحمد محجوب، وفي طريق عودتي إلى حي أبوروف التقيت بالقاضي عبدالرحمن النور وانضم إلى مجلسنا القاضي صلاح حسن وعلي المك. حينما أشرقت الشمس ذهبت إلى ودنوباوي ثم واصلت سيري بشارع الأربعين، وفي الطريق التقيت بطلبة الكلية الحربية وتبادلت معهم التحية قبل أن يتم اعتقالهم في ذلك الوابور العائم، واستمعت لإبراهيم العبادي وهو ينشد منادياً طلبة الكلية الحربية (يا حليل الطير الرحل، لو قريب في زحل، التلامذة السكنو البحر) ولازال العبادي يبكي طلبة الكلية الحربية، ولا زال طلبة الكلية الحربية يرتدون (لبس خمسة)، منذ أن ذهبوا وأدوا التحية للزعيم علي عبداللطيف وحاجة العازة محمد عبدالله وفتحوا الطريق للنساء للخروج في المظاهرات، وكانت حاجة العازة محمد عبدالله هي التي ابتدرت هذا الطريق، وهي رائدة الحركة النسوية الحديثة، ولذا عليكِ أن تنظري اليوم إلى طول المسافة والطريق، وواصل عرفات محمد عبدالله حديثه قائلاً إنه بعد الغياب اطلع على أعداد من مجلة صوت المرأة والتي أخذها من مكتبة مهيرة في العباسية، وإنه قد إستمتع بلقاءات محاسن عبدالعال مع حاجة العازة محمد عبدالله، وقد وزع تلك الأعداد في مدرسة الأحفاد حينما ذهب للقاء الشيخ بابكر بدري، وفي ذاك اللقاء التقى إبراهيم بدري الذي حدثه عن الجنوب وعن ذكرياته القديمة وهو يعبر خط الاستواء، وعرفات لا يزال يذكر مروره عند القباب المطرزة بالنذور عند الشيخ دفع الله الصائم ديمة والليلة التي أمضاها في حمدالنيل ومع الشيخ قريب الله وود عبدالماجد، والحديث الشيق مع التجاني الماحي ذلك الألمعي المهتم بالشباب والنساء في طرقات المدينة وهو يجمع حكاويهم الحزينة. وإذا أردتِ أن تعلمي لماذا يطلقون الرصاص بكل هذا الهوس فعليكِ أن تذهبي وتلتقي بالأستاذ محمود محمد طه في منزله في الثورة فهو يرى بالكتاب وباليقين سوء عاقبة المفسدين. أضاف عرفات لتلك الفتاة إن الذين أطلقوا الرصاص على الشباب الذين كانوا معها استخدموا بنادق كتنشر باشا القديمة حينما أطلق الرصاص على سكان المدينة في عام 1898م عند كرري، ولكن رصاص كتشنر لم يمنع صدور (الفجر) لاحقاً على أيامنا. قال عرفات لتلك الفتاة إن هذه المظاهرة التي تجوب الطرقات ستلتقي عند مشرع ابوسعد والفتيحاب بالإمام الأكبر محمد أحمد المهدي وهو يرفع علم السودان عالياً، ويعبر بجيشه القادم من سهول كردفان إلى الخرطوم عند نقطة الفتيحاب، وقد كان على موعد مع غردون، لم يأتِه وحيداً بل أتى بأنجم زاهرات من كل السودان، فقد أحاط به حمدان أبوعنجة قادماً من الكارا وعثمان دقنة من البجة في شرق السودان وود النجومي من أنحاء نهر النيل وأبوقرجة من الشمال النوبي والعبيد ودبدر من الجزيرة وعلي ودحلو من النيل الأبيض والزاكي طمل والخليفة عبدالله التعايشي من غرب السودان، كانوا لوحة منسوجة من مغازل الوطن. كانت الفتاة تنصت بانتباه والشمس قد أشرقت وقال عرفات محمد عبدالله إن كل هؤلاء يشاركون معك في هذه المظاهرة، وذكر لها أنه على موعد مع عبدالمنعم عبدالحي الذي يضم الشمال والجنوب بين ضلوعه ومع صديق مدثر وهو يرتاد الثريا ويبث الليل أسرار الهوى ويصوغ الصبح ذوقاً بابليا، ومحجوب شريف الذي غنى للخرطوم حتى شدت أوتار المغني وأوعك تخاف، أصحى فك الريق هتاف، فإنهم جميعاً سيقومون بزيارة خليل فرح (بالطريق اللي شاقي الترام) وسنكون حافيين وحالقين فقراء من كل شي سوى الوطن، ولن تكن لدينا عملة بعد أفلست البنوك سوى بسالة وعزيمة الشباب والنساء وسوف نتبرع ببعض دمنا في مستشفى أمدرمان للجرحى وسنهتف مع الشباب، وعليكِ أن تعلمي أنني عرفات محمد عبدالله لم أغادر أمدرمان مطلقاً ولم أغادر السودان أبداً. تابعت الفتاة عرفات محمد عبدالله وهو يسير في الطرقات وهي تستمع لحكيه البديع وعند نادي الخريجين استأذن منها عرفات ثم لم تشاهده مرة أخرى، وقرأت في مجلة الفجر التي صدرت بتاريخ 23 -7- 1936 " بقلوب مكلومة وأنفس محزونة تنعى أسرة مجلة الفجر إلى الأمة السودانية الكريمة ابنها البار وخادمها الأمين المرحوم عرفات محمد عبدالله الذي لحق بالرفيق الأعلى في الصباح الباكر من هذا اليوم" وقد شيعت جنازته جموع غفيرة وخرج نعشه يظلله اللواء البيض وقد كتبت عليه الكلمات التي عاش من أجلها الحرية والنهضة والفجر، وهذا ما سطرته مجلة الفجر في 15-3-1937 وسالت دموع تلك الفتاة وأدركت أن ما بقى من عرفات هو أكبر من غيابه فلازالت بلادنا مع موعد مع الحرية والنهضة والفجر . 12 يناير2019م *هذه الكتابة في بعض أجزائها المتعلقة بالمعلومات الشخصية عن حياة الزعيم عرفات محمد عبدالله استندت على معلومات مأخوذة من كتاب دكتورة كوريتا عن علي عبدالله عبداللطيف ومصادر الثورة السودانية، وملامح من المجتمع السوداني للأستاذ حسن نجيلة، والمقالة التي سطرها عنه المناضل عبدالله الحاج القطيني من مناضلي مدينة عطبرة المعروفين.