الذين يعتقدون أن البشر وحدهم هم القادرين على التحكُّم في مصائر أممهم وشعوبهم وعلى التأثير في مجريات مساراتها الرئيسية، دون أن يكون للأقدار دخل في ذلك ، ليسوا معنيين بمواصلة قراءة هذا المقال. ففكرة هذا المقال الجوهرية قائمة على الإيمان بتلك الأقدار والتأمل في تنزلاتها على الواقع وصلة ذلك بمصائر أهل السودان. سأحاول هنا التأمل في أقدار الله على أهل السودان في سياق قصص "الرحيل المفاجئ " عن دنيانا لأربعة من أبرز قادته السياسيين ، والتوقيت المفصلي لذلك الرحيل، وسأورد ذلك بحسب أسبقية الرحيل وليس بأي معيار آخر . 2 أول المعنيين هنا هو الفريق الزبير محمد صالح، والذي رحل - كما يعرف الكثيرون - في فبراير من العام 1998 إثر تحطم طائرة عسكرية كانت تقله وآخرين، فنجا مِن نجا وذهب إلى ربه من ذهب. لكن هذا ليس هو ما يعنينا في هذا السياق . كان الزبير - لمن يعرفونه - يمثل واسطة العقد في نظام الإنقاذ، بين "المدرسة العسكرية" والمدرسة المدنية، وكان محل إحترام وتقدير أصحاب المدرستين ، وكثيراً ما كانت تدخلاته تشكل عنصراً حاسماً في رأب الصدع داخل التيار الإسلامي الحاكم حيث كانت قد بدأت تظهر التباينات داخله حول الأسلوب الأمثل لإدارة شؤون الحكم . وقد مثّل توقيت رحيله نقطة فارقة في عمر الإنقاذ، إذ سرعان ما بدأت الخلافات تظهر للعلن وتأخذ التيارات داخل المجموعة الحاكمة شكل المواجهة الصريحة إبتداءً من اختيار خليفته في منصب النائب الأول. لقد مضت أقدار الله على النحو الذي يعرفه الكثيرون، لكني من باب التأمل في تلك الأقدار أفول إنه لو بقي الزبير حياً لربما تشكلت وقائع تلك المرحلة من تاريخ السودان والإنقاذ على نحو مختلف، لكن ذلك لم يحدث بطبيعة الحال، فكان ما كان . 3 أما الثاني فهو الدكتور جون قرنق، الذي أدى القسم نائباً أول لرئيس الجمهورية في يوليو 2002 وفق مقتضى إتفاق السلام الشامل الموقع في يناير من ذلك العام ، وكان قد ذهب لوداع صديقه يوري موسفيني في يوغندا على أن يعود لتسلم مهام منصبه، لكن تلك العودة لم تحدث كما يعرف الجميع. كان يمكن لقرنق أن يصبح رئيساً للسودان الموحد عن طريق صندوق الانتخابات في 2010 في حال سار تنفيذ اتفاق السلام الشامل على النحو الذي رسمه داعمو ذلك الإتفاق من القوى الغربية، لكن الأقدار لم تمهلنا ولم تمهل أحداً لاختبار هذه الفرضية. وكان يمكن أن يتغير شكل الحكم والإدارة في السودان بشكل كلي لو أنه بقي حياً حتى نهاية الفترة الإنتقالية، لكن كيمياء العلاقة بين شمال السودان وجنوبه تغيرت تماماً برحيله، وحدث ما حدث !! 4 وثالث الراحلين هو الدكتور حسن الترابي، الذي فارق دنيانا إثر علة قلبية في مارس من العام 2016 وقد كاد أن يكمل مشروع الحوار الوطني الشامل ، الذي كان مِن مبادراته الجريئة. كان الحوار الوطني برأي الكثيرين - وأنا منهم - يمثل طوق النجاة ليس للنظام الحاكم فحسب ولا للإسلاميين الذين فعل بهم صراع السلطة ما فعل، وإنما للسودان كله، وكان الراحل الدكتور الترابي يعرف، أكثر من أي شخص آخر، طبيعة العقبات والمخاطر التي يمكن أن تواجه إيصال الحوار لخواتيمه وتنفيذ مقرراته وتوصياته. سواء من داخل الصف الإسلامي أو من خارجه ، ولعله لذلك أبقى على كثير من تصوراته لمستقبل الحوار والسودان طي كتمانه ولم يفصح إلا عن ملامح عامة ضمّنها ما يُعرف بالنظام الخالف. أقول - من باب التأمل في أقدار الله أيضاً - أن الدكتور الترابي لو بقي حياً ، لكان للأحداث مسار مختلف، لكن أقدار الله التي سبقت بالفصل في الكيفية التي سيُنزع بها الملك من نظام الإنقاذ، اختارت للدكتور الترابي الرحيل قبل ختام الحوار الوطني بستة أشهر وفي ذلك التوقيت الدقيق. 5 وآخر الراحلين في هذه المجموعة ممن رسموا في حياتهم أحداث السودان وتاربخه ، هو الإمام الصادق المهدي الذي رحل عن دنيانا بالأمس ليكون رحيله أحد الأحداث الجليلة التي شهدها هذا العام العجيب بأحداثه. ولا شك أن التوقيت الذي رحل فيه ، من عمر السودان ، لا يقل دقة وحرجاً عن توقيتات مَن سبقوه ممن أتينا على سيرتهم ، لكنها أقدار الله التي اختارت هذا التوقيت ليواجه أهل السودان أمواج التغيير القادمة ، بمدها وجزرها، في غياب أحد رموز الحكمة والحكم ، بغض النظر عن اتفاق البعض أو اختلافهم، مع نهجه وأسلوبه في إدارة الشأن العام في حياته الحافلة. ومرة رابعة - من باب التأمل في تلك الأقدار وليس استباقاً لها - نقول إنه لو بقي الصادق المهدي حياً حتى نهاية الفترة الإنتقالية هذه، لكان مشهد الأحداث المتسارعة في السودان سار على نحو مختلف مما سيأتي، بغض النظر عن هذا الذي سيأتي، خاصة داخل كيان الأنصار وحزب الأمة، وسيذكر الذاكرون حديثي هذا إن بقينا على قيد الحياة أو رحلنا كما رحل الراحلون. 6 أقول ما قلت ، وأدعو الناس للتأمل في أقدار الله التي يسوق إليها السودان وأهله، لعلنا ندرك الحكمة من وراء توقيت رحيل أولئك الرجال ، ممن صنعوا الأحداث في حياتهم ويصنعونها برحيلهم !!