وددت لو أن أحد الباحثين أو المؤرخين عكف على حصر ودراسة ما يمكن اعتباره فرصا أو أحداثا ضائعة في تاريخ السودان السياسي ، وما أكثرها ، ورسم لنا ( السيناريوهات ) الافتراضية التي كان يمكن أن تترتب على كل واحدة منها ؛ وهي أحداث وفرص لو كانت قد حدثت أو تم استثمار أي واحدة منها ، في حينه ، لربما كانت وقائع التاريخ في هذا البلد جرت على غير النحو الذي تجري عليه الآن !! في تاريخ السودان ، هنالك أحداث ووقائع هامة كثيرة مرتبطة ببعضها ؛ أو أنها كانت سببا مباشرا في أحداث أخرى جاءت تالية لها ، والمنطق الافتراضي يقول أنه لو تغيرت وقائع الحدث الأول فان وقائع الحدث التالي لتغيرت تبعا لذلك ؛ و( لو ) هذه من النوع الذي يفتح أبواب التحليل السياسي لوقائع التاريخ ، حتى نأخذ منه العبرة لحاضرنا ومستقبلنا ، فلا تجعلوها من النوع الذي يفتح عمل الشيطان !! ونبدأ بذكر ما أنجزته لجنة ( السودنة ) وهي اللجنة التي كلفت ، عقب الاستقلال ، باستيعاب أبناء السودان في الوظائف التي كان يشغلها موظفو الادارة الاستعمارية ، فقد أعطت تلك اللجنة الاعتبار الأساس في عملها الى المؤهلات العلمية والخبرات العملية لشغل الوظائف ، فكانت نتيجة جهدها أنها لم تجد من أبناء جنوب السودان ممن تنطبق عليهم المواصفات الا القليل ، وترتب على ذلك أن تولى أغلب الوظائف في الجنوب شماليون ؛ ويرى مؤرخون كثيرون أن ذلك كان أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الأهلية ، كونه أعطى احساسا وشاهدا للجنوبيين ، أنهم انما يستبدلون ظلم أجنبي بعيد بظلم وطني قريب .... وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند !! قبيل الاستقلال كذلك ، وكنتيجة لمؤتمر المائدة المستديرة ، وتوصيات لجنة الاثني عشر ، كان السقف الأعلى لمطالب السياسيين الجنوبيين ، هو الحكم الفيدرالي ( وقتها لم تبرز الى السطح مصطلحات جديدة كمصطلح الفيدرالية الموسعة ) ، لكن آباء الاستقلال من السياسيين الشماليين اعتبروا ذلك المطلب ، طعنة موجهة لوحدة التراب الوطني ، فرفضوه جملة وتفصيلا ... وتداعت قضية جنوب السودان على النحو الذي يعرفه الجميع ، حتى بلغنا الآن مرحلة مطالبة الجنوبيين بحق تقرير المصير !! حين بدأت التعددية الثانية ( 1965-1996م ) لم يكن السيد الصادق المهدي قد بلغ السن القانونية للترشح للدوائر الانتخابية ، وكان النظام وقتها يقضي بأن يكون رئيس الوزراء من نواب البرلمان ، وبعد نحو عام من بداية الفترة ، حين بلغ الصادق السن القانونية ، أصر على أن يستقيل له أحد نواب حزبه من ( دائرته ) ففعل النائب ، وترشح الصادق وفاز ، ثم انتخب رئيسا للوزراء ، بعد معركة داخل حزبه مع أحد آباء الاستقلال رئيس الوزراء حينها ، الأستاذ محمد أحمد محجوب ، ذلك على الرغم من معارضة عمه ( الامام الهادي ) لهذا الموقف !! وفي العام 1968م ، وبتحريض من القوى الاسلامية ، قررت الجمعية التأسيسية ( البرلمان ) حل الحزب الشيوعي السوداني ، وطرد نوابه من البرلمان ؛ وكانت نتيجة ذلك أن لجأ الحزب الى العمل السري والتآمر على النظام التعددي ، فدبر انقلاب 25 مايو 1969م . ولم يحتمل الحزب الشراكة الاشتراكية في الحكم فدبر انقلاب يوليو 1971م ، وقد كانت نتيجة ذلك أن تم اعدام قادة الحزب العسكريين والسياسيين ، لا مجرد طردهم من البرلمان أو غيره !! استمر الحكم المايوي ستة عشر عاما ، تقلب خلالها بين أقصى اليسار وأقصى اليمين ، لكنه سقط أخيرا نتيجة لما عرف بانتفاضة أبريل 1985م ، فعادت التعددية السياسية ، وظن الناس أن السياسيين وعوا الدرس ؛ غير أن مذكرة الجيش الشهيرة في فبراير 1989م ، وما صاحبها من ضغوط على رئيس الوزراء حينها ، السيد الصادق المهدي ، باخراج أوطرد ( الجبهة الاسلامية القومية ) من ائتلافه الحاكم ، واستجابته لتلك الضغوط ، كانت السبب الأساس في دفع الاسلاميين الى الانقلاب على التعددية الثالثة ، فكانت ( ثورة الانقاذ ) الوطني !! لم يوافق قادة القوى السياسية الرئيسية داخل سجن كوبر على مقترح ( زميلهم ) بالسجن ، الدكتور حسن الترابي ، بالاتفاق على دعم النظام الجديد ، ودفعه نحو وضع أسس جديدة للمارسة الديمقراطية في البلاد ؛ بالطبع لأنهم كانوا يعتقدون أن لزميلهم داخل الأسوار صلة بما يجرى خارجها ؛ وكانت نتيجة رفض هذا العرض أن مضت ( الانقاذ ) في مشروعها منفردة ، وتجمع الآخرون في معارضتها ، فكانت المواجهات المستمرة ، التي أهلكت الزرع والضرع ، والتي ما يزال بعضها تجرى في عروقه دماء الحياة !! طوال مسيرتها ، ما قبل يناير 2005م ( تاريخ توقيع اتفاق السلام الشامل ) فقدت الانقاذ ، بعضا من أميز رجالات الصف الأول ، وأخلصهم ، في حوادث طائرات مشهورة ؛ كان الحادث الأول في 1993م ، حيث تحطمت طائرة صغيرة فوق منطقة ربكونا فاستشهد الأساتذة فضل السيد أبوقصيصة وأحمد الرضي جابر وموسى على سليمان ، فضلا عن العميد كمال على مختار... كان كل واحد من هؤلاء حزبا بحاله ، وكانوا هم رأس الرمح في ( ملف جنوب السودان ) . ثم كانت حادثة طائرة الشهيد الزبير محمد صالح ، ورفاقه ، وطائرة الشهيد ابراهيم شمس الدين ورفاقه . ومن بقى من صف الانقاذ الأول ، ضربه الانشقاق الذي انتهى بحزب المؤتمر الوطني الى حزبين ، وطني وشعبي !! لم يمض سوى أقل من شهر على توقيع دستور السودان الانتقالي ، في التاسع من يوليو 2005م ، واعلان البداية الرسمية للفترة الانتقالية من اتفاق السلام الشامل ، حتى تناقلت الأنباء خبر سقوط الطائرة اليوغندية التي تقل النائب الأول لرئيس الجمهورية ، رئيس الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق ، ورحيله الى الرفيق الأعلى ؛ وأعقب ذلك أحداث الأثنين الدامي !! هذه النماذج من وقائع تاريخنا ، تفتح كلها أبواب الأسئلة والاستفسارات ، وكذلك التأمل ، تارة عن ظاهرة ( العجلة ) أو الاستعجال لدى أغلب ساسة بلادنا ، وتارة في كيفية تسيير الأقدار للأمور ، على خلاف ما يريده البشر ؛ فلو أن تطبيق توصيات لجنة السودنة وضع في الاعتبار أهمية أن يتولى الجنوبيون وظائف قيادية في الجنوب ، وفي الشمال ، فلربما أسهم ذلك بالقدر الأكبر في امتصاص غضب الغاضبين ، أو ابطال تحريض المحرضين ... ولو أن قادة القوى السياسية ، قبلوا توصيات لجنة الاثني عشر باعطاء الجنوب حكما فيدراليا ، لربما لم نسمع نحن بشئ اسمه مشكلة جنوب السودان !! ولو أن السيد الصادق المهدي ، لم يستعجل الوصول لقمة السلطة ، ولم يضغط في العام 1966م لاستقالة النائب بشرى حامد من الدائرة (62) كوستي ، ولم يستعجل الصراع داخل حزبه مع رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب ، فلربما كان بوسع التعددية الثانية أن تؤسس لبنى تحتية أفضل للديمقراطية ، ولبقى حزب الأمة الى يومنا هذا رقما أساسيا في معادلة الحكم في السودان ... ولو لم يستعجل الاسلاميون حسم صراعهم مع الشيوعيين ، بانتهاز حادثة معهد المعلمين العالي ، ولم تقم الجمعية التأسيسية بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه ، لربما لم تجد (مايو) طريقها للتنفيذ ، ولو أن الشيوعيين لم يستعجلوا الانفراد بالسلطة في يوليو 1971م ، لربما كان مسار الأحداث في نظام مايو مخالفا لما عرفه الناس عقب ذلك !! ولو لم يقدم الجيش مذكرته في فبراير 1989م ، لرئيس الوزراء ، أو لو أن رئيس الوزراء لم يستجب لضغوط الجيش على حكومته المنتخبة ويفض ائتلافه مع الجبهة الاسلامية ، لربما رجح الاسلاميون خيار العيش ضمن النظام الديمقراطي التعددي على ما سواه من خيارات ... ولو أن رفقاء الدكتور الترابي في محبسه ، تفهموا رغبته في اعادة صياغة النظام التعددي على أسس جديدة ، ولم يعارضوا نظام الانقاذ بالشراسة التي فعلوها ، لربما كان وجه ( الانقاذ ) الآن هو غير الوجه الذي نراه !! ولو أن الدكتور قرنق لم يرحل ذلك الرحيل المفاجئ ، وفي ذلك التوقيت ، لربما كان مسار تنفيذ الاتفاق بين شريكي نيفاشا ، مختلفا عما سارت عليه الأحداث والوقائع ، ابتداء من أحداث الأثنين التي أعقبت رحيل قرنق ، وحتى أحداث أبيي !! صحيح أننا مؤمنون بقضاء الله وقدره ، وأن من مقتضيات ايماننا هذا أن نؤمن أنه ما كان لنفس أن تموت الا باذن ربها كتابا مؤجلا ، لكن الصحيح أيضا ، أن نؤمن بأن في القصص عبرة ، وأن العبرة التي يمكن أن نأخذها من بعض هذه القصص ليست مجرد قولنا : ( الشفقة تطير ) ولكن أيضا أن نؤمن بأن أخطاء جسيمة وقعت في تاريخنا السياسي ، بسبب تلك الشفقة أو بسبب من محدودية التفكير والتدبير، وأنه يتعين علينا أن نسلك من السبل ما يجعلنا لا نكرر أخطاءنا .