قال القائل "لن نسمح إلا بديمقراطية معقولة، ولن نترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب فتتحول الديمقراطية إلى فوضى سياسية". القائل يملك مفاتيح الأمور بيده، لا شك بذلك، وهو يملك القرار، فهو يسمح أو لا يسمح، كما أنه يملك المقادير والمعايير، فيقرر، لوحده، حدود هذه الديمقراطية المعقولة من غيرها، فيسمح بها، إن وجدها معقولة، وأوقفها عند حدها ولم يسمح لها إذا اتضح أنها غير معقولة. القائل هنا لا بد أن يكون الحاكم بأمره، أو على الأقل من متولي المناصب القيادية بالدول التي بيدها المنح و المنع، ولعله كبير العسس، الذي بيده تنفيذ مشيئة الحاكم بأمره، منعا ومنحا. كضبا كاضب، فالقائل هنا لا هذا ولا ذاك ولا حتى ذلك، إنه نقيب المحامين، حامي الحريات والرقيب على تجاوزات الأجهزة والسلطات للقانون. في كل بلاد الدنيا التي تركب الأفيال والحمير، أو التي تركب السيارات، أو تلك التي تسير راجلة، فإن المرجعية النهائية هي الدستور، نصوصه وفصوله ومواده، إليه ترجع الأمور ويحتكم الناس إذا استشكلت عليهم المواقف والقضايا وادلهمت الأمور ولعبت الحكومة بذيلها. وفي كل بلاد الدنيا فإن المواطن الفرد إن جارت عليه السلطات وتغولت على حقوقه وحرياته، وحاولت وضع حدود من عندها لهذه الحقوق والحريات، فإنه يلجأ أول ما يلجا لنقابة المحامين، باعتبارها الحصن الأمين للحقوق والحريات، وسند المواطن وحامي ظهره. يفعل ذلك باعتبار أن هذه نقابة، ومن المهام الأساسية للنقابات الدفاع عن الحريات العامة وحماية حقوق المواطنين، ثم أنها تقع في الصف الأول ضمن ما يسمى بنقابات الرأي، التي تضم المحامين والصحفيين واتحادات الكتاب والفنون، فهذه نقابات يقع الرأي ضمن أخص اهتمامات أعضائها وجزءا من شغلهم اليومي. هكذا شاهدنا الحال في كثير من دول العالم، ورأينا كيف تهب هذه النقابات، ومن بينها نقابة المحامين، فتقود حملة شعبية واسعة لوقف تغول السلطات على الحقوق والحريات وتنبري لها مسائلة: ما هي حدود هذه الديمقراطية المعقولة، وهل وردت نصا في الدستور؟ في زمن مضى رمى الصحفيون طوبة اتحادهم، الذي يعمل بنفس ماكينة اتحاد المحامين صاحب الديمقراطية المعقولة، وقرروا أخذ قضية الرقابة بأيديهم، ونظموا سلسلة من النشاطات انتهت باعتصام امام البرلمان، فقبضت عليهم الشرطة وساقتهم زمرا إلى المعتقل. واتصلت إذاعة "بي بي سي" بنقيب الصحفيين لتسأله رأيه، فأجاب أن هؤلاء الصحفيين أعاقوا حركة الشارع وعطلوا المرور، وقبضت عليهم الشرطة لهذا السبب، فلماذا يتدخل اتحاد الصحفيين؟! هذا هو مقاس الديمقراطية "المعقولة" التي وعدنا السيد نقيب المحامين بأنه سيسمح بها.، ولن يسمح بتجاوزها، وهو صاحب المقاسات والأمتار، يقيس ويقرر. وحتى لو لم يكن القائل هو نقيب المحامين، ولنفترض أنه هو رئيس الجمهورية أو مدير الشرطة او جهاز الأمن، ألا يدخله هذا الأمر في خانة المحاسبة والمساءلة، وألن يجد من يقول له: ومن أنت لتقرر مايسمح لنا مما لا يسمح؟ يوم يصبح قرار الأمم في يد الفرد، أيا كان وفي أي موقع كان، فاعلم أنها الديكتاتورية واضحة جلية، وهي الشمولية ببناتها وأبنائها، وهي حتما الملك العضود الذي تنهي عنه الأديان والأخلاق وتجارب الأمم. ولا يغير في الأمر شيئا إن تحدث الفرد عن تقواه ومخافة الله وأطال لحيته وجرد مسبحته. من أنت يا رعاك الله حتى تقرر في مصير الأمم والشعوب وتعين نفسك ترزيا تحدد لها مقاسات ديمقراطيتها؟.