[email protected] يتفادى معظم السودانيين الخوض فى ماضيهم بما يحمله من غرائب وعجائب ، رغم أن آثارها على الحاضر واضحة لا تخطؤها عين لا تعلوها غشاوة ، حتى أن الكثيرين يطعنون فى صدقية بعض الصور التى تظهر قوما عرايا ، وصدور نسائية مكشوفة ، وصور لأندايات خمر كانت منتشرة فى كل السودان ، كما العادات ذات الطبيعة الإباحية التى سادت حتى فترات قريبة شهدناها بانفسنا ، لكن فى المقابل يصدقون ما كانت تبث إليهم عبر شاشات ساحات الفداء التى كانت تؤكد خوض الملائكة للحروب إلى جانب المجاهدين ، وتزويج موتى لحور عين ، وفواح مسك عن جثث من كانوا ينتحرون فى سبيل تثبيت سلطة الإسلاميين. المعلومات الصادمة هى أن السودانيين ولفترات طويلة من التاريخ ، وحتى وقت قريب ، كانوا وثنيين ، وعاشوا مطمئنين فى ظلها ، وإن كانت المسيحية هى دين الدولة الرسمى فى فترة مملكة سوبا التى إنهارت عام 1505 م ، وأن المسلمين الأوائل فى السودان ، كانوا يتعايشون مع المسيحية والوثنية جنبا إلى جنب ، وفى فترات لاحقة إستخدمت نفس الوسائل الدعوية الإغرائية التى كانت تتبعها الوثنية من طبول وإنشاد ورقص كإحدى الوسائل التحفيزية للدعاة الإسلاميين الأوائل. حتى بدايات القرن الماضى ، فإن أكثر الشماليين كانوا يمشون عرايا .. يعملون فى المزارع وهم عرايا .. يصطادون الأسماك وهم عرايا.. وأقصى ما كان يلبسنه النساء المتزوجات هى غطاء حول الخصر ، والفتيات بعض الجدائل ما بين الصرة والركبة مصنوعة من الحبال ، وهناك صور تؤكد على ذلك ، وفى قصص الشيخ فرح ود تكتوك عبارات تصف واقع الكساء وإن أتت فى سياق مواضيع أخرى ، والإستثناءات كانت للحكام وأسرهم فكانوا يلبسون الملابس المستوردة على بساطتها ، للتميز عن باقى أفراد الشعب ، لم يتغير هذا الواقع إلا فى فترة الحكم البريطانى .. أقصى ما كان يقدر عليها الرجال من أزياء ، هى الملحفة والتى أشبه بالملاية يلف بها جسده عندما يهم بالخروج ، ويحولها إلى كيس لحمل بعض الأغراض عند الحاجة ، ويتغطى بها ليلا عندما يخلد إلى النوم ، وقد يغسلها مرة أو مرتين فى الشهر.. تغلفت الوثنية السودانية اليوم ، وإدغمت بطريقة ممتازة ، وإلبست لباسا صوفيا وعاشت مطمئنة لا تزعجها إلا طنين الوهابية الصحراوية المدعومة بأموال نفط إستثنائية وفيرة ، يندر وجود مثيل لها فى العالم. أما قديما فلم تكن لها أثر على حياة السودانيين ، فالإسلام السودانى كان سيد الموقف لفترات طويلة ، وهذه تسمية إصطلاحية لوصف مزاوجة الوثنية بالصوفية .. وإن كنتم فى السودان ، تستطيعون رؤية ذلك بكل وضوح .. بعض القبائل التى تعد جنوبية اليوم ، كانت دائما ، وفى معظم الوقت قريبة ولصيقة بعمليات صياغة المجتمعات الشمالية ، خاصة على ضفتى النيل الأبيض حتى مجمع النيلين ، تلكم التفاعلات التى رمت بظلالها السالبة عليها ، فدفعتها للإنكماش جنوبا كل مرة إلى أن وصلت وإستقرب فى أماكنها الحالية ، فيما بعد إعادت التفاعل التدريجى والتجاور مع المجتمعات الشمالية التى أخذت فى التعافى بعودة سلطة القانون بإنهيار المهدية . تقف عمليات الإتجار بالبشر على رأس العوامل التى كانت تهدد القبائل المحيطة بالسلطنات النوبية والإسلامية السودانية ، فبينما كانت تتورط تدريجيا فى عمليات صيد وجمع وتصدير العبيد ، إلا أن المجتمعات الشمالية كانت الأوفر إستفادة من الناحية الإقتصادية ، كون أراضيهم تعتبرالمنفذ الوحيد المطل على الأسواق ، تماما كبترول اليوم الذى لا يجد منفذا الى البحار إلا عن طريق الشمال ، أما باقى القبائل والمجتمعات السودانية البعيدة عن هذه الأسواق ، فما كان عليها إلا التعاون إن أرادوا فائدة حقيقية من وراء هذه المهنة. هذه الحقيقة ، تفند القصص والأساطير الشمالية التى تصور التجار الأوائل بأوصاف خارقة وهم يخوضون مغامرات صيد العبيد وقتل الأفيال والأسود ، وقصص إمتطاء أولاد العرب لظهورالنمور والتشابك وإحتدام التشابك اليدوى معها ، ومنهم من إدعى شرب دمها وأكل أكبادها وهى حية ، والكثير من البطولات والأمجاد الشخصية المزيفة . واقع الأمر أنهم فى حملات صيد العبيد ، إعتمدوا على دللاء محليين بجيوش صغيرة فى الغالب تتبع مباشرة للشيخ أو سلطان القبيلة الجنوبية المستضيفة ، فتعمل على مساعدتهم فى معرفة أماكن القبائل الأخرى المناوئة لتفاديها ، أو ، النزال ، والأسر ، ومن ثم إستلام المعلوم مقابل الخدمة ، الثمن فى الغالب يكون بعض الأسلحة والمشغولات النحاسية والحديد والغوايش والخرز وأدوات زينة ، ثم يكملون مهمتهم بالحراسة وإخراج التجار ببضاعتهم البشرية إلى حيث الأمان ، وتنطبق نفس منظومة العمل هذه ، على عمليات صيد الحيوانات البرية المتوحشة ، فالمحليون هم الأعلم بأماكن تواجدها وفنون قتلها والمخاطر التى تحيط بالمكان ، فى أغلب الأحوال يشنون حملات لتنفيذ هذه العمليات فى أراض بعيدة ، فيأتون ببضائع جاهزة للبيع فى الزرائب ،مكونة فى الغالب من الجلود واللحوم المجففة وسن الفيل وريش النعام ، علاوة على عبيد من قبائل أخرى ، فليس لهم أسواق لمثل هذه الأشياء.. يأت التجار وهم فى العادة مجموعة صغيرة من أبناء العمومة ، فيسعون إلى مقابلة كبير القبيلة ، أحيانا يحملون إليه فى ببعض الهدايا ، كالملبوسات أو كساء الشرف السلطوية الخاصة ، فيطلبون إنشاء زريبة إلى الجوار ، فيتم تكريمهم ، ثم يشيرون إليهم بالمكان المناسب ، فينشئون الزريبة وبداخلها بعض القطاطى ، فيضعون بضائعهم ويسكنون فيها ، ثم يتفرغون لإستقبال الأهالى الذين سيأتون إليهم بما يريدون من حيوانات برية حية أو لحوم كالغزلان والخرتيت والقرود ، أو بسن الفيل وريش النعام ، فيطلبون أيضا عبيدا بمواصفات معينة (فتيات ، شباب ، أطفال ) وذلك حسب طلب كبار المصدرين ، فيشن المحليون غارات على القبائل الأخرى فيقتلون منهم ويأسرون من سيكونوا عبيدا ، فيأتون بهم إلي الزرائب مصفدين ويستلمون بالمقابل بعض البضائع ، ثم يتولون الحراسة والتأمين الليلى حسب نوعية الإتفاق الذى تم من قبل.. (إذن زريبة القرية ، هى سوق القرية ، ومكان لعقد الصفقات). إذن .. العملية كانت تبادل مصالح عادية تتم بمنتهى السلاسة ، وربما بالحرص الشديد على وجود وسلامة هؤلاء التجار بزرائبهم إلى الجوار لأغراض إقتصادية بحتة .. ولو شاءوا لقتلوهم شر قتلة ،، ولطردوهم شر طردة كما فعلوا بالزبير باشا فى أعالى النيل ، لينتقل فيما بعد إلى بحر الغزال فيعيد تأسيس تجارته مستفيدا من تجربة بلاد الدينكا.. إذن الجزء الأخطر من العملية تتم بسلمية وتعاون ، حتى أن قادة وسلاطين هذه القبائل يأتون بين الحين والآخر لزيارة هذه الزرائب للإطمئنان على أحوال ضيوفهم !! قد يتسآءل أحد !! ولم لم يحاول الجنوبيين بالمقابل صيد عبيد شماليين !! كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك بكل سهولة ، ومن الشماليين من يعتقدون أنهم كانوا يخشون من عواقب الإنتقام العروبى الشمالى ، أو أنهم لا يقوون على مواجهتهم ، ومنا أيضا من سيضف عليها مسحة غيبية دينية ، بحراسة تلك الزرائب بواسطة ملائكة أو جان أو جنود من حيوانات غاب مفترسة ، لكن الواقع أن العبيد الشماليين كانوا بضاعة كاسدة ، فلا أحد يشتريهم ، ولا توجد منافذ لتصديرهم إلى الأسوق ، ولا يقوون على حياة المستنقعات ، وهم على الدوام فى حاجة للمساعدة ، ذلكم أنهم آتون من بيئة مختلفة ، ولا غرابة فى ذلك . هناك حالات كثيرة لعبيد شماليين كان يتم القبض عليهم ، خاصة فى جبال النوبة ، فيعيشون فى الأسر لحين حضور أهلهم وفديتهم مقابل أبقار ، وإن طال أمد الأسر ، يتم إستيعابهم ضمن أفراد القبيلة ، ويتولى أسيادهم سداد مهر تزويجهم ويمنحون بعض الأبقار والأغنام مقابل قيامهم بمهام الرعى ،، وينتهى الأمر.. كانت هذه إشتراطات الحياة فى تلك الزمان ، فإما التورط فيها ، أو الهجرة إلى أماكن بعيدة عن مسارات هذه التجارة ، فقد كانت الأسواق العالمية فى ظل الحروب التوسعية ، متعطشة للحصول على الأيدى العاملة الرخيصة .. بل والمجانية وكانت القوى الدولية ، خاصة الخلافات الإسلامية التى إمتصت الطاقات البشرية فى السودان لمدة 700 سنة تطبيقا لإتفاقية البقط بإستنزاف الشباب النوبى أولا ، ومن ثم القبائل القريبة ، ثم البعيدة ، فالأبعد ، إلى أن وصلت حتى جنوب دارفور وراجا ، ومنطقة بور فى جنوب السودان ، وجبال الأنقسنا بالنيل الأزرق ، لقد كان لنشوء وتوسع الخلافات الاسلامية وتوسعها الفضل الأول فى إزدهار مهنة الإسترقاق.. المثير للحيرة والتساؤل ، أن المسلمين الأوائل إجتهدو أيما إجتهاد فى الوصول إلى هذه المناطق ذات الطبيعة الإستوائية الخطيرة ، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء أى دعوة إلى الإسلام .. !! ربما المصلحة كانت تقتضى الكف عن ذلك !! معظم العبيد السودانيين ، الشماليين منهم والشرقيين والجنوبيين والغرابة ، كانوا من الأطفال بدءا من سن الخامسة حتى الثامنة عشر ، حسب إحتياجات الأسواق الكبرى ، وأكثرهم على الإطلاق فى تركيا والشام والحجاز ومصر ، وغالبية المهن التى إشتغلوا بها هى الجندية والمزارع وخدمة المنازل وحراسة الأموال ورعاية الجوارى والأطفال وصيد الأسماك ، والمساعدة فى الأعمال التجارية .. يعنى كانوا يعملون فى كل شيئ ... ثم أنهم كانوا يأتون عبر البحار من جيبوتى وكراتشى والبلقان وغرب أوربا .. بل وفى الحجاز!! فقد وردت أخبار عن حالات إستعباد بعض ممن أتوا إلى الحج !! إنه تاريخ نتن أشد النتانة ، ومحرج لحد لا يوصف ! الجدير بالذكر أن عبيد السعودية ، عندما أطلق سراحهم ، نالوا تعويضات مالية مجزية عبر المحاكم.. نرد هذه القصص هنا للتأكيد على أن العبودية كانت وباءا عالميا ، صعبة الشفاء والإستئصال ، وأن أول من تصدوا لها هم الأنجليز ، ففشلوا فى إقناع قادة الإسلام السياسى فى إسطنبول بالتخلى عنها ، فسعوا بعد ذلك جاهدين الى عقد مؤتمر دولى فى فيينا لهذا الغرض عام 1814 ميلادية ، فتعالت الأصوات فى وجه سلطة الخلافة العثمانية ، فأنطلقت سهام بداية الحرب الطويلة ، دامت قرنا ونصف .. وربما فى البال بعض الحسرة والحنين إلى تلكم الليالى الظلماء. وربما إلى اليوم من يزعجه كل ما يمت بصلة بالمساواة بين خلق الله من البشر.. وختاما لهذه الحلقة ، وإجهاضا لبعض السهام الطائشة ، نود أن نؤكد للأخوة الأعزاء ،، خاصة الشماليين ، ممن يحرجهم تناول هذا الموضوع ، أننا نرمى من وراء تناول هذا الموضوع هدفين إثنين. الأول هو رفع الحرج عن الشماليين خاصة المستنيرين وذوى الأفكار الوطنية المنتجة البناءة ، أن العملية لم تكن فى أيديهم كلية ، بل أن سياسات الخلافات الأسلامية بما فيها العثمانية ، هى المسئولة بالدرجة الأولى عن إستشراء هذا المرض التى رمى بظلاله على ماض وحاضر السودان ، وعقدت مسائل الوحدة الوطنية.. والثانى ، هو التوضيح بجلاء ، أن معظم بقاع السودان التى تأثرت بهذه التجارة ، قد شاركت بصورة مباشرة وفعالة فى هذه الأنشطة ، بأفراد من تلك القبائل للأغراض الإقتصادية التى أشرنا إليها ، وإن يكن هناك من محاكمات تاريخية وأخلاقية لأصحاب هذه الأنشطة ، فإن دائرة الإتهام يجب تتسع لتشمل الكثير من الشركاء الشماليين والجنوبيين والدارفوريين ، حيث كانوا من ضمن حلقات تبادل المصالح .. ما يؤخذ على الشماليين حقا ، أنهم يصفون كل أبناء الأقاليم التى كانت مصادرا لهذه التجارة ، بالعبيد ، ربما أخذا وتقييما بالمظاهر اللونية ، وربما توظيفا لهذه المفردات لأغراض سلطوية ، فيتجاوزون الحقيقة التاريخية الجلية التى تؤكد ، أنهم لم يتعرضوا للعبودية على الإطلاق ، بل قد يكونوا من أحفاد الأسياد الذى كانوا يصطادون ويجمعون ويبيعون العبيد !! ونحن بصورة شخصية ، وآخرون من بنو جلدتنا قد سمعنا من آبائنا وأجدادنا قصصا كانوا يحسبونها بطولية عن حملات صيد العبيد وكيفية تصفيدهم على جذوع وقيدهم من رقابهم بشعب الأشجار ، وكيف كانوا يبيعونهم للجلابة ، أو يأتى من يفك أسرهم بعد دفع الفدية ، ونحن إذ نأسف على تورط الأولون وبعض من آبائنا ، نستغرب أشد الإستغراب بإفتخار بعض الشماليين بهذه الوساخات التاريخية ، بل وجنوحهم لإتخاذها واحدة من معايير الأهلية الأجتماعية والسياسية ، كتلك السقطة الوطنية المدوية عشية ثورة اللواء الأبيض 1924م ،،، وإستثمارات الطيب مصطفى 2012م. وفى المقابل ،، يتحرجون أشد الحرج ، وينكرون حقيقة العرى والصدور النسائية المكشوفة فى أغلب حقب التاريخ القريب رغما عن وجود صور تؤكد ذلك.. ويتحرجون ، وربما ينفون نفيا باتا ، حقيقة ماضيهم الوثنى ، والمسيحى ، ويميلون لتصديق قصص غير مؤسسة ، تؤكد برآءة أجدادهم منها ، وإدعاءات مزيفة بإسلام الأولون وإيمانهم ، رغما أن آثار هذه الوثنيات ظاهرة على الكثير من سلوكيات اليوم ..!! والكارثة الكبرى ، أن يشار مجرد إشارة إلى السلوكيات الإباحية لأسلافهم .. وقد أكدها ذات يوم ، الكاتب المرموق شوقى بدرى .. لا أعتقد أن كل هذا الزيف والخديعة ، تليق بكم ! ولا أعتقد أن الرق والإسترقاق ، إبتكارات وبطولات حصرية مفصلة على مقاس أجدادكم !! ولا أعتقد أن الشماليين مضطرون الى تحمل كل هذه القاذورات وحدهم !! .. إلا إن كانت تقف خلفها دوافع وإسقاطات عقدية نفسية أخرى ، وفى هذه الحالة ، يتم تناول الأمر ومعالجته فى مساق مختلف كلية .... فكروا معى أيها السادة والسيدات فيما تم طرحه اليوم ، وتفضلوا بالإدلاء بدلوكم سلبا كان أم إيجابا ... ولنا عودة .. والسلام عليكم..