محاورة لقصيدة "فاتحة القصائد فاتحة النزيف" كان وقتآ كأنه أصيلُ المغاربِ عندَ أشفاقِ الصباح الوقتُ كان كأنه شفقُ الصباحِ عند أصائل المغارب الوقتُ كان .. و ما يهم !! فالوقتُ دائرةٌ تدورُ بهذي المستديرةِ التي كبيضةٍ تنازعتها أيادي الخرافة نجمآ يلوذُ دفءَ عتمتِه برَحِمِ الفضاء طقسآ .. لا تزال تسأله الجسومُ قبعةً و شال الشرقُ يحتضنُ أوباتِ الطيور أوكارَ الغروب يردُّ ما تقدَّمَ من تحايا الحُنْوِ الغروبيّ انفكاك أجنحةِ الحمامِ من فخِ الظلام عند تلك المواقيت و أيّها .. ما كان بينهما يعلو شهيقُ قلبي .. يدندنُ - غيرَ دوزنةٍ – أغانٍ زفرةُ الأشواقِ تربتُها ، تقطَّعتْ أوتارُ ما تُدعى النياط فاختلجَ الحنينُ مع الأنينِ أو عكسآ صحيح رغمَ بينهما كدحٌ و كدٌ لا يلين. لا شك أن قصيدة "فاتحة القصائد فاتحة النزيف" للمبدع د. طلال دفع الله قد أوصلته وأبناء جيله من الشعراء إلى نفس عتبة المأزق الإبداعي الذي وجد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش نفسه وجيله من الشعراء فيه وذلك بعد فراغه من نزف كامل حروف قصيدته عالية المقام "مديح الظل العالي" أواخر عام 1982م. فمثل ما وضعت "مديح الظل العالي" صاحبها وأقرانه من الشعراء وجها لوجه أمام حرج وتحدي تجاوز نصها العصي على التخطي أكاد اجزم أن رائعة د. طلال "فاتحة القصائد فاتحة النزيف" ستظل تمثل لأمد نفس التحدي المستفز فكان الله في عون طلال وصحبه من ساكني وادي عبقر. ولابد لي في هذا المقام وأنا أحاور نص بكل هذه الفخامة أن أؤكد بان ضعف أدواتي النقدية والتحليلية قد حد من إمكانية الإحاطة بكامل بنيته الإبداعية وسأعتمد في محاورتي المتواضعة هذه على ذائقة وفطرة المتلقي من غير ذوي الاختصاص الذي أحاطه بجانب من مسببات هذا النزيف الإبداعي وتلك الطاقة الشعورية الهائلة التي فجرها د.طلال في وجه الساحة الثقافية فجاءت مزلزلة ومربكة أرهقت الوجدان وأدمت مني القلب فبت لا أتجاوز مقطع من تلك القصيدة الموجعة حتى أعود إليه ثانيا مرتعشا والفؤاد يسحقه النزيف. قلتُ كهولتي تجدُ المساندَ ساعديك و تُهيلُها بعدَ الرحيلِ الحقِ أكوامَ الترابْ منه أتينا .. و إليه مكتوباً نعود ترابٌ من ساعديك يبذرني ؛ عطرُ التعرِّقِ ، كنتُ أهفو ، ان يكونَ ماطرةَ اللحاد ؛ و أنيستي في وحشةِ الظلماتِ ما تقرأ ؛ من كريم الآي يختمها الدعاء في صلاة الفجر؛ أدبارَ موقوت الكتاب ؛ وما بِرّاً تزيدْ هذا الذي ودَّ الفؤادُ نافلةً يقول و بدواخلي بعضُ المزيد . *** البردُ يحتاجُ الدثارَ يا كبدي قلبُ أمِّك ثم قلبي ؛ كانا غطاءً لو علمتَ .. يا سلمتْ يداك والآنَ لا ندري أيَّ الفصولِ يمتحِنُ المكان الحرُّ يحتاجُ الهباهبَ كنا نهبُّك أنفاسَ الرضاء نسائماً وغمائمَ أيُّ المذاهبِ جَلْمَدَ قلبَك كالصوان و دعاكَ ترحلُ دونَ تلويحِ الوداع أو ما علمت الفوزَ إن خُفِضَ الجناحُ !؟ وما تحت أقدامِهِنَّ ما لا رأتْ عينُ ؛ أو سمعت أذان !!؟؟ يا الله من أي عجينة معجمية قد خبزت نصك يا طلال ومن أي القواميس استقيت نزيف جرحك!؟ لاشك أن الرجل قد سكب ما تبقى من رحيق الروح ولم يستبقي منه قطرة ليغمرنا بكم هذا الوجع الصادق، لله درك كيف احتمالك كم هذا الرهق والعنت الشعوري!؟. أو تعلم يا بُنيَّ الفؤادَ تسميةً ؛ من أين جاءت !؟ لا علمَ لي ؛ هل علمُ لك !؟ ففؤادي كلَّ وقتٍ ، يرجو و ينشدها السكينة بفؤادها أنزل اللهُ السكينةَ إذ وعدآ يعود و فؤاديَ الذي قد صارَ وسطَ الريحِ أرياشآ دون جرحٍ أو صراخٍ أو أنين تلك الرياش التي فاصَلَتْها زغبُ أجنحةٍ تجرِّب أن تطير ؛ لامسَتْه في خلايا البالِ حيّاتُ الظنون ؛ فما انتفضْ غرسَتْها في نسجه نابآ فناب كاصطدام طائرةٍ تفوقُ عَدْوََ الصوتِ نيازكاً كانت على جرْفِ إشتعالٍ ؛ ما انثقبْ قلبٌ جاهدته/جاهدها النعوشَ طالعةً من المزعاتِ ؛ قاصدةً أُخَرَ الضفاف ؛ فما ارتعبْ نَهْنَهََ القلبُ يا كبدي دماءً ثم قال : لَسبيلُنا هذا الصراطُ مكتوبآ على كفِ الجميع و لهذا لا يفيد الدمعُ فيهِ ؛ و إن تهاطلَ لا يُعيد عاركته عاركها الحياةَ فكنا كفَّتين عرف المغانمَ و المحارمَ و المغارمَ ؛ صدَّ الجوائحَ ما استطاع ؛ عرف النجاحَ طوراً و الهزائم ما آخِرُ الأشياءِ إن عَظُمَت؛ و إن صَغُرت سوى نصرٍ مؤقتَ أو هزائم تنسلي نيرانُها بدوالك الأيامِ ؛ ثم لا يبقى خواتمَها سوى رمسُ الرماد . لقد اعتمدت قصيدة "فاتحة القصائد فاتحة النزيف" الرمزية إلا أنها لم تكن رمزية مجردة لا يفهم منها شيء، وإنما كانت رمزية دالة منحت المتلقي القدرة على البوح والبكاء على ليلاه، ولعمري تلك هي البراعة والإبداع بعينه، وتجربة د. طلال الشعرية العميقة قد أعانته في بناء قصيدته والسيطرة على أفكاره وتسلسلها ومن ثم شحنها بالطاقة الشعورية الملائمة لها ليذكي بها أحاسيس وعواطف المتلقي ويفجر انفعاله العاطفي وتفاعله الذهني مع النص. ورغم المرارة القاسية التي تذخر بها أرجاء القصيدة وتسيطر عليها إلا أنها تنفرج في النهاية وتنفتح على أمل الاستفادة من وجع التجربة مشبها التطهر من رجسها بالألم والدموع كحج البيت يغسل الدواخل من الذنوب ويجلي القلوب. تتميز القصيدة بأصواتها المتعددة التي تختلط داخل البناء لتلح على توترها وعلى نسقها الشعري في محاولة لمقاربة النصوص الملحمية التي تتجاوز الانفعال المباشر للإحاطة بالموضوع والنظر إليه ككل متكامل. وفي القصيدة يركز الشاعر على شخصية البطل ويقيم معه حوارين مباشر وغير مباشر، كما يلهب ظهر السلطة وفكرها ألظلامي ويدينها دائما وفكر السلطة الغاشمة هو الذي يشكل الإطار الثابت في القصيدة. كما تمتاز القصيدة أيضا بحالة من النبوءة ، حالة يتداخل فيها الحلم بالوعي، لتصبح سيالة ودافقة لا شيء يعترض فيض انسيابها ، ولغة بنيانها متغير تتوالد مفرداته وتتآلف وتنفجر في علاقة جدلية مع عنصر أيديولوجي، كما أن عنصر الزمن لا يعود مجرد إطار ساكن إنما يصبح قاعدة للمسار العام وجزءا أساسيا من البنية الداخلية للقصيدة. أن د. طلال دفع الله يظل حالة شعرية متفردة، تستحق التأمل مليا في سياقاتها الإبداعية وتظل حداثته النصية كامنة في قدرته الفائقة على صياغة الدهشة التعبيرية "الطلالوية" القادرة على خلق حالة من قلق وتوتر المعاني مع بلورة الفكرة واستنهاض الوجد وحالات التأمل، هذا مع قدرة عالية على استحضار المشاهد المثرية للمتخيل الشعري بغرض ربط المتلقي وإحكام وثاقه بالنص والتحكم في مزاجه وحالته النفسية. تيسير حسن إدريس 02/01/2013م.