لخرطوم : مزدلفة محمد عثمان المشهد فاجأ الكثيرين... رغم إدراكهم حجم الأزمة المالية إلا أنهم ما رغبوا في أن يخرج «أحدهم» ليملأ بها الأرجاء وتصرف الأنظار عن الأوراق التي اجتهد معدوها في تشريح الواقع السياسي والاقتصادي والتنظيمي لحزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي .. ومنظر السيدة التي تبرعت بأوقيات من الحلي الذهبية لدعم مؤتمر الشعبي في ولاية الخرطوم بالثالث من ديسمبر الجاري خطف الأضواء عن الجلسات الرئيسية في خواتيمها لساعات، خاصة وأن التبرعات انهالت ليعاد لتلك المتبرعة أوقياتها الذهبية .. و المشهد نفسه على تلقائيته حكى عمق الأزمة التي يعيشها المؤتمر الشعبي حاليا بعد المفاصلة الشهيرة التي وقعت بين الإسلاميين قبل أكثر من عشر سنوات وانقسمت فيها الحركة إلى فريقين تربع الأول على سدة الحكم فيما اختار الثاني المعارضة التي جرت عليه مصاعب ومشكلات لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد ، بينها مصادرات لعدد كبير من السيارات والشركات ومقار الحزب في العاصمة والولايات بجانب مضايقات طالت رأسماليين أثروا تقديم الدعم والسند لحزب الترابي فامتنعوا بعدها عن التمويل أو غادروا السودان نهائيا .. والترابي نفسه شكا غير مرة في ندواته ولقاءاته الصحفية من التضييق الذي يلاقيه حزبه ومصادرة الممتلكات عقب كل اعتقال أو أزمة سياسية بينه والحكومة، لكن كان ملاحظا أن الحزب سرعان ما يستعيد عافيته المالية ويعاد تأثيث الدور واستئجار أخريات بمبالغ ربما تكون أضعاف التي ذهبت، وما أن يقف الحزب على قدميه ويحسب أنه استرجع ما ذهب منه حتى تأتيه ضربة جديدة .. وهكذا استمر الحال طوال عشر سنوات ظهرت في خواتيمها ملامح الضربات التي تلقاها الحزب وأعيته بشكل لم يعد من اليسير مداراته، فالحزب عاجز حتى الآن عن عقد مؤتمر قطاع الطلاب كما أنه غير قادر على تحديد موعد للمؤتمر العام الذي يفترض فيه انتخاب أمين عام جديد يخلف الترابي بينما عقد مؤتمر ولاية الخرطوم بشق الأنفس حسب ما تقول معلومات حصلت عليها «الأحداث» من مصادر لصيقة فضلت حجب هويتها ورغم محاولات مسؤول المال في الحزب أحمد الشين نفي الأزمة وتأكيده ل «الأحداث» أن حزبه معافى مالياً، ملخصا الأزمة بمجملها في انعدام «الأخلاق والقيم» كفلت للسلطة مصادرة ممتلكات الحزب كما يقول دون أن يحصل على أي تعويض يستحقه ، ويفاخر الشين عقب انتهاء مؤتمر حزبه في ولاية الخرطوم بأن الشعبي قادر على إتمام مؤتمر بتلك الكيفية عشرات المرات وأن عضوية الحزب كفيلة بمساندته للخروج من أي معضلة مالية .. ويبدو أن الرجل كان حريصا على تجميل وجه الحزب بقدر الإمكان فالواقع الذي تقصته «الأحداث» بعد تلك التصريحات تقاطع كليا مع أي احتمالات تؤشر لأن حزب الترابي يتمتع بالمال .. فالحزب فقد المال حين ذهب السلطان .. رغم أن الشركات التي تأسست في ظل سطوة تنظيم الجبهة الإسلامية على مقاليد الحكم مطلع التسعينات حرص مؤسسوها على إبعادها عن الدولة والحكومة وتركوها لخدمة التنظيم، فوضع كل المال حينها تحت تصرف الأمين العام حسن الترابي الذي قرر لاحقا أن يشرك معه آخرين في إدارته فاستعان بالقيادي يسن عمر الإمام ، وما لبث أن اتسعت الدائرة بإشراك مسؤول نافذ في الدولة حاليا في إدارة مال الحركة الإسلامية فأجرى حصرا دقيقا للشركات التابعة للتنظيم وبحسب المصادر فإن ذات الشخصية استفادت من تلك المعلومات في ملاحقة وتصفية تلك المؤسسات بعد المفاصلة الشهيرة .. وكما يقول المصدر فإن أكثرها شهرة كانت شركة «التوالي» التي تأسست برأس مال قدره 600 ألف دولار وبعد عمليتين استثمارتين ارتفع المبلغ إلى نحو مليون دولار ، لكن الشركة جرى تصفيتها بعد الانقسام مباشرة . وبعد تكرار عمليات المصادرة آثر الشعبي على ما يبدو إدارة أمواله بعيدا عن الأنشطة الاستثمارية كما أن قيادات في الحزب توجهت صوب التجارة والاستثمار لكنها حوربت بقوة ، و يقول القيادي في الحزب أبوبكر عبد الرازق ل «الأحداث» أمس إن الدولة استهدفت على مدى السنوات الماضية إفقار الرأسمالية في الشعبي بآليات مختلفة نجحت إلى حد كبير في تحطيم أي تقدم مالي وصودرت شركات مسجلة باسم أفراد ، كما عمدوا لحجز بضائع في الميناء لقيادي معروف في الشعبي إلى حين إدخال أخرى بذات المواصفات للسوق بسعر أقل أدى لخسارة تلك الشخصية قرابة ال800 مليون دولار في العام 2000 ، ويقول عبد الرازق إن المصادرات والتضييق على دور الشعبي أدى لتراكم إيجارات المباني لمبالغ وصلت لمليارات الجنيهات يجتهد الحزب في تسديدها إلى الآن بوسائل مختلفة، كما أن الحملة الانتخابية الأخيرة أجهدت الحزب وراكمت ديونا لم تحل إلى الآن. ويؤكد عبد الرازق أن ديون أحد المرشحين من حزبه في واحدة من الولايات تجاوزت ال500 مليون جنيه لا زال الحزب يعاني لتغطيتها رغم أن الرجل غادر الشعبي وانضم للحزب الحاكم متقلدا منصبا رفيعا تاركا للحزب سداد الديون في كبد ومشقة ، ويؤكد القيادي أن حزبه عازم على عقد مؤتمره العام إيفاء للنظام الأساسي الذي يستوجبه كل أربعة أعوام ، رغم الضيق المادي ويقول «الأمر يتطلب جراحة حادة وجهدا من أولي العزم» ويبدي أبوبكر حيرة واضحة بالقول إن حزبه لا يستطيع تأسيس شركة استثمارية لأنها ستحارب كما أنه لن يتمكن من الكشف عن أي جهة تدير لمصلحته أي أنشطة يتمكن من خلالها توفير ما يدعم أنشطته ومؤتمراته لأن مصيرها سيكون التضييق، ويضيف بأن الخيارات منعدمة باستثناء الاستعانة بمن ينشط في خارج السودان ولا يرغب في الرجوع ثانية وينبه القيادي في الشعبي إلى أن الافقار طال كل الأحزاب السياسية ولم يكن المؤتمر الشعبي استثناء، وينوه إلى أن تلك القوى اضطرت لمناورة المؤتمر الوطني إما بالمشاركة وإما بالمواقف الرمادية لتأمن جانبه وتتحاشى المزيد من الحصار . ويعتقد على نطاق واسع أن تمتع الأمين العام للمؤتمر الشعبي حسن الترابي بعلاقات خارجية مع دولة قطر وحركات إسلامية في العالم العربي ربما تغنيه عن سؤال أعضاء الحزب أو محاصرتهم لتمويل الحزب ، لكن أمين المال في الشعبي أحمد الشين ينفي بحدة أي دعم خارجي قائلا «لا نتمتع إلا بعون الله ورعايته» بينما يقول مصدر مقرب من الترابي إن الرجل رفض قطعيا مطالبة أي دولة أو جهة خارجية بالمال ويروي كيف أنه زجر قياديا محسوبا على الحزب في إحدى الرحلات لقطر حين ألمح إليه بإمكانية الحصول على مساعدات من الشيخ حمد، ويقول المصدر إن الترابي رفض قطعيا الحديث عن الوضع المالي للشعبي في كل رحلاته الخارجية للعلاج أو العمل وتكفل بتغطيتها من مصادر خاصة . وتعيق أزمة المال في الشعبي مؤتمره العام والذي يفترض فيه تنحي الترابي وانتخاب خليفة يتولى مقاليد الأمور في الحزب، كما يشكو طلاب الحزب من سوء أوضاعهم التنظيمية في الجامعات وتفكك الحزب ويجاهدون لعقد مؤتمر عام لإعادة ترتييب الصفوف، لكنهم أيضا يواجهون وضعا ماليا غاية في التردي ، ويرى البعض أن الحزب ربما يتلكأ عمدا في عقد مؤتمره العام بسبب خلافات داخلية تضرب أركانه عند الحديث عن تنحي الترابي لانعدام البديل الذي يمكن أن يقود الحزب ويحظى بالإجماع الذي يلقاه الزعيم الإسلامي الحالي ، لكن أبوبكر عبد الرازق يقول ل «الأحداث» إن الترابي يملك أطروحة ليتنحى ويستخلف أمينا عاما جديدا يعاصره ويفيده من خبراته، وهو لا يمانع في التحول إلى أمين ثقافي أو أي أمانة أخرى ويتفرغ لإكمال التفسير التوحيدي وإكمال كتاب متعلق بالأصول وثالث يتناول تجربة الحركة الإسلامية في السودان.