تسفر الحفريات وأعمال التنقيب الأثرية في منطقة كرمة شمال دنقلا، كل يوم عن اكتشاف أثري جديد أو إعطاء تفسير مختلف أو معضد لاكتشاف سابق تم في المنطقة وفقا لما يقوله مدير متحف حضارة كرمة . ويعزز مدير المتحف عبد الماجد محمد حديثه بالقول " إن رئيس البعثة السويسرية التي تتولى أعمال التنقيب الأثري في المنطقة، شارل بونيه، قال عن مبنى الدفوفة الغربية التي تجاور المتحف إنها كانت صرحا ضخما لمراقبة السفن التجارية المزدهرة التي كانت تمخر عباب النيل آنذاك ، وقال لاحقا إنها كانت محلا تجاريا لتخزين السلع النادرة، وقال عنها مؤخرا إنها كانت مركزا دينيا وتعبديا كبيرا " . وكلمة "ديفوفة" باللغة النوبية تعني المبنى المرتفع من صنع الإنسان، والذي كان يبلغ في أصله حوالي 25 مترا. وما تبقى من المربع الديني اليوم، يرتفع لحوالي 18 مترا. وقد تم ترميم سلم به لكي يسمح للزوار بالصعود الى أعلاه وإلقاء نظرة على كامل أقسام المدينة القديمة. وبما أن المبنى الديني كان مرتبطا بالقصر الملكي عبر ممر، استنتج الباحثون أن الملك، وإن لم يكن إلاها، فإنه كان يقوم بدور رجل الدين.ويعد المبنى من أحسن المباني الطينية القديمة التي بقيت في وضعية جيدة . ويقول عبد الماجد " أيا ما كانت تمثله هذه الدفوفة سابقا فهي تأكيد على ثراء المنطقة الأثري والتاريخي . وتشير إلى وجود كنوز أثرية قد يؤدي التعرف عليها وعلى لغتها، إلى توفير حقائق تاريخية جديدة ومذهلة للحضارة السودانية النوبية العريقة ". ومتحف كرمة الذي أقيم على بعد أمتار قليلة من مبنى الدفوفة، جزء من مجمع متكامل لحضارة المنطقة من المزمع تأسيسه على مراحل متدرجة يضم مركزا للدراسات والبحوث النوبية ومكتبة ومعمل ومنازل واستراحة وورش للصناعات اليدوية المحلية ونزل للسياح . أهل المنطقة هم الذين بادروا بتقديم فكرة إنشاء هذا المتحف ومجمعه لحفظ وتأصيل هذه الحضارة وإجراء المزيد من البحوث والتنقيب عنها والتعريف بها داخليا وخارجيا إلا أن كل من وزارة السياحة والهيئة القومية للآثار تبنتا لاحقا هذه الفكرة للأهمية القومية للمشروع . ويقول مدير المتحف عبد الماجد محمد " إن المتحف صار أهم مكان يمكن أن يقصده أهل المنطقة وما جاورها حيث يزورونه بمعدل 200 شخص يوميا. ويرتفع هذا العدد إلى ما يتراوح ما بين 1,000-1,050 شخصا أيام الجمع والعطلات القصيرة ثم إلى 1200 و1500 شخص في العطلات السنوية حيث يأتي إلى المنطقة ابناؤها من السودان وخارجه، إضافة إلى ابناء الولاية خاصة من مناطق دنقلا والمحس الأخرى . أما الأجانب وخاصة الأوربيون فهم يأتونها في فصل الشتاء وخلال الفترة من نوفمبر وحتى فبراير ويتراوح عددهم ما بين 150 -200 سائحا . ويضيف أن أهل المنطقة وعلى الرغم من أنهم يزورون المتحف باستمرار فإن العدد الذي يدخل المتحف يبلغ حوالي 50 شخصا والآخرين الذين تعرفوا على المتحف ومقتنياته من حضارة كرمة سابقا، يتنزهون في حدائقه أو فنائه أو يصعدون إلى مبنى الدفوفة بقصد الترفيه . وتكمن خاصية مجمع حضارة كرمة من حيث الموقع، في كونه مجمعا أقيم قبالة موقع مدينة كرمة القديمة التي كانت عاصمة المملكة التي حملت نفس الإسم ما بين 2400 و1400 قبل الميلاد، كما ذكر مديره . و تتمركز جل المواقع الأثرية التي شرع عالم الآثار السويسري شارل بوني في التنقيب بها منذ 43 سنة في منطقة كرمة والقرى المجاورة لها في البرقيق أو دلقو. وأهم موقع هو ما يعرف بالديفوفة الغربية أو بقايا المدينة النوبية العريقة كرمة، التي أسست في عام 2400 قبل ميلاد السيد المسيح والتي تطورت لأكثر من 1000 سنة كعاصمة للمملكة التي حملت اسم مملكة كرمة . والمميز لمبنى الديفوفة أن الصعود إلى أعلى المبنى يتم عبر سلم جانبي وليس عبر سلم يتوسط المبنى مثلما هو الحال في المعابد المصرية ، وهو ما يُستنتج منه دائما أنه يدل على ثقافة وهندسة معمارية نوبية خاصة ومتميزة . ويقود السلم إلى غرفة رئيسية بها أعمدة حجرية من المرمر الأبيض لربما تم جلبها من بعيد لأنه لا توجد مقالع حجر في المنطقة. ويُعتقد أن هذه الغرفة كانت عبارة عن مكان لتقديم القرابين مثل الكباش فقد تم العثور على بقاياها في ركن من أركانها. وتنتهي الغرفة بدهليز كانت توضع فيه الوسائل الضرورية لتنظيم القداس الديني . وفي منطقة "دوكي قيل"، غير بعيد من هذه الدفوفة تم العثور على تماثيل عدد من الملوك ، تم عرضهم بصورة بارزة في مدخل متحف كرمة أولهم " تهراقا " الذي يتوسط الجميع بقامته التي تفوق 2.80 مترا، ثم تمثالي تانوت آمون، وهما من الفراعنة الذين حكموا مصر والسودان . ثم تمثال " سينكامانيسكن " بلباسه الديني وبغطاء الرأس الذي يحمل ايضا شعار الملوك الذين حكموا كلا من السودان ومصر. وإلى اليمين تمثال " آنلاماني " بغطاء الرأس الذي يحمل إلى جانب شعار ملوك كل من مصر والسودان، قرون الإله " آمون " التي أصبحت تضاف منذ بداية الإمبراطورية الأولى و تعتبر من التقاليد النوبية. ثم تمثال صغير للملك " آسبلتا " ويعد من أقوى الملوك الذين حكموا المنطقة ، وهو الذي نقل عاصمة المملكة إلى جبل البركل . أهمية ما عثر عليه في مدينة كرمة كما قال شارل بوني للصحافة السويسرية " هو أن أغلب المدن القديمة عرفت بناء مدن حديثة فوق بقاياها القديمة، وبالتالي لم يعد ممكنا التعرف على أشكالها ومقوماتها وهندستها الأصلية " ، ولكن مدينة كرمة بقيت مغمورة تحت الرمال طوال هذه الفترة، ولم يكن بارزا منها سوى قمة ما يعرف اليوم بالديفوفة أو البناء العالي الذي يتعدى ارتفاعه 18 مترا . وقد سمحت عمليات التنقيب المتتالية ، التي قام بها الفريق السويسري طوال الثلاثة أشهر من كل سنة على امتداد الأربعين عاما الماضية ، باكتشاف معالم مدينة يقول عنها شارل بوني " إنها عاصمة صُممت بشكل اصطناعي ليس كمدينة مزارعين أو رعاة، بل كمركز إداري لتسيير مملكة ممتدة الأطراف بها منازل الملوك وأشراف القوم ". وهذا ما يفسر وجود بيوت كبيرة الحجم وبأشكال هندسية تختلف كثيرا عما هو معروف عن منازل السكان القرويين . قبالة المربع الديني كان يوجد القصر الملكي الذي لم يكن مجرد مقر سكن الملك، بل كان يحتوي أيضا على العديد من الورش، إما لصناعة الفخار أو لنحت الحجر أو لتعليب السلع ووضع الصكوك عليها قبل تصديرها. كما اشتمل القصر الملكي على قاعة استقبال دائرية الشكل تقلد ما هو معروف في مناطق إفريقيا جنوبا، ولا يوجد مثيل لها في المناطق الشمالية . ومما تتميز به أبحاث الفريق السويسري في كرمة عثوره على موقع به رسوم صخرية قلّما عُثر عليها في وادي النيل باستثناء منطقة على البحر الأحمر؛ وتقول البعثة هذه الرسوم الصخرية معروفة في منطقة الطاسيلي بالجزائر وفي ليبيا، " ولكن تم العثور على بعد 25 كلم عن كرمة على موقع به آلاف الرسوم المنقوشة على الصخر، وسُمح لنا باقتناء رسم واحد لعرضه في المتحف ". ويعكس الرسم قطيعا من الأبقار وهو ما يوضح أن أهالي المنطقة بدأوا بتربية الماشية قبل مزاولة الزراعة. ويطمح الفريق السويسري للتنقيب بصورة أعمق عن جذور الإنسانية إذ يرى أن بعض الآثار المعروضة في المتحف تعود إلى حوالي عشرة آلاف سنة مثل بيضة نعام مزخرفة أو قطع عظمية لزرافة، مما يعكس أن المنطقة كانت تعيش فيها الزرافات وفرس النهر . ويحتوي المتحف على مقتنيات من الحقب الساحقة من التاريخ تعكسها قطع تم العثور عليها في وادي النيل تعود إلى مليون سنة؛ وهي الحقبة الخاصة بالعصر الحجري الوسيط ما بين 250 ألف و50 ألف سنة. حيث تم العثور على بعد 40 كلم من كرمة على موقع بركان بقمته مواقع استعملت من قبل الإنسان لصناعة أدوات مثل الحراب والسكاكين، وهذا الموقع بقي على حاله وبشكل مكشوف منذ ما يزيد عن 50 ألف سنة ويتطلب التنقيب فيه تجهيزات كبيرة للإقامة فيه مدة أطول . ويختم مدير المتحف حديثه بأن الإعلام للمتحف وحضارته غير كافيين. ويتوقع أن يحدث جذبا سياحيا كبيرا سواء على الصعيد الوطني أو الخارجي في حال توفر الإعلان والترويج عنهما أكثر . ويقول " إن ربط المناطق السياحية المنتشرة في المنطقة بكثرة ، في صاي وصلب وتمبس وجبل سيسا ودنقلا العجوز والبركل ودلقو، ببعضها البعض سينعش السياحة بصورة كبيرة ويدر على المنطقة أموالا مقدرة . ع س