صديقي منذر.. لك الود والتحايا والسلام.. في ثقة أقول.. إنّك «ما عندك حظ» أما أنا ولله الحمد والمنّة والشكر.. فقد وهبني الله حظاً.. لو قسم على كل «المنحوسين» لرفلوا في حُلل السعادة والمرح.. وحظي هو أنّي قد عرفت عن قرب يساريين يتدفقون نبلاً وإنسانية.. وزهداً.. وتواضعاً.. ونفوسهم تحتشد بالحب ولا يسعدون إلا بعمل الخير للفقراء من أبناء شعبهم.. أنا اليوم لن أكتب لك عن أولئك الذين انبثق الدم حاراً يغرغر في صدور الرجال الشرفاء الذين لمعوا كما الشهب وتفجروا كما النيازك وكتبوا بأجسادهم المطوحة فوق شرفات هذا العالم أرق كلمات الحنين إلى الزمن الآتي.. أكتب لك عن يساريين.. وهبوا هذا الشعب.. ملاحم أسطورية من الغناء البديع والشعر الرصين.. أكتب لك عن «ود المكي».. ولا أحكي لك عن أكتوبرياته أو الغناء لأمته في «أمتي» ولا بكاء قطاره.. قطار الغرب.. وهو ينوح على حال أبناء شعبه ومدن شعبه البائسة المدفونة بالرمال.. أكتب لك عن قصيدته التي مدح فيها سيد البشر الرسول المعصوم.. وهاك القصيدة.. خطها اليساري «ود المكي».. مدينتك الهدى والنور مدينتك القباب ودمعة التقوى ووجه النور وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل.. وفي الحصى المنثور.. مدينتك الحقيقة والسلام على السجوف حمامة.. وعلى الربى عصفور مدينتك الحديقة يا رسول الله كل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور هنالك للهواء أريجه النبوي موصولاً بأنفاس السماء وكأسها الكافور هنالك للثرى طيب.. بدمع العاشقين ولؤلؤ منثور هنالك للضحى حجل بأسوار البقيع.. وخفة وحبور هنالك للصلاة رياضها الفيحاء والقرآن فجرياً تضيء به لهى وصدور هذا هو محمد المكي إبراهيم.. يا منذر.. و«برضو تقول مؤمن» ونذهب إلى فاطمة.. فاطمة أحمد إبراهيم.. ولله درك يا فاطمة.. هذه المرأة النخلة التي وهبت شبابها.. وعمرها.. وربيع حياتها.. ثم زوجها متأرجحاً على حبل ما صنعته في الربوع يدان.. مودعاً الحياة.. دفاعاً عن شعب ووطن.. و«كل ذلك كوم» والذي سوف أرويه لك «كوم» آخر.. قبل سنوات خلت.. ثلاثة أو أربع لا أذكر.. ولكني أذكر جيداً.. إنها كانت ضيفة على الأستاذ «عمر الجزلي» في برنامجه الخطير والوسيم «أسماء في حياتنا» تهادت الحلقة في فسحات الدقائق.. ناعمة أحياناً.. وعاصفة حيناً آخر.. تحدثت عن محطات في حياتها والتي هي كل محطات الوطن.. جاء ذكر الاتحاد النسائي.. وقبله النشأة والميلاد وتلك التربية الدينية الواسعة والمترفة وهي في كنف أب تتخلل كل مسامات بدنه روح الإسلام.. الجزلي يسأل وهي تجيب.. الجزلي يستدرج وهي تطاوع.. الجزلي ينادي وهي تستجيب.. ثم جاءت محطة «الشفيع» زوجها الذي أعدمه نظام الطاغية نميري.. بدت المرأة فاطمة في ثبات جبل أشم.. وطود راسخ.. وعمود خرساني لا يطاله التفتيت.. وفجأة تدفقت الدموع في طوفان أغرق الشاشة.. كان بكاءً مراً ونشيجاً يقطع أنياط القلوب.. «أنا بكيت كما لم أبك من قبل ».. وأنا أشاهد التلفزيون من الحجرة التي بها أنام.. وتهطل دموع فاطمة الغالية حتى أمر «الجزلي» بوقف التصوير.. وتوقف التصوير.. لتسترد فاطمة أنفاسها وتكفكف دموعها الغالية.. والآن هاك المفاجأة.. هل تعلم صديقي.. أن كل تلك الدموع لم تكن لأن ذكرى زوجها المقاتل الجسور قد أهاجت فيها كل ذاك الأسى بل كانت دموعها تتدفق وهي تقول للأستاذ «الجزلي» إن أمنيتي وقبل أن أموت أن أرى أي متشرد وكل أطفال أبناء وبنات الشوارع من «الشماشة» في حضن أم أو وسط عائلة.. أو على الأقل على «سرير» في قلب «حوش» أو «أوضه».. هل رأيت نبلاً مثل ذلك يا منذر.. وهل هناك نظرة إلى حدث مرعب ومخيف كانت تراه فاطمة منذ ذاك الزمن.. ولست أدري وقع الكارثة عليها وبالأمس يموت أكثر من ستين فرداً من هؤلاء البؤساء الذين أبكوا فاطمة.. مع السلامة..