(الدنيا ليل غربة ومطر ) ، تستعيد هذا النشيج من أقاصي ذاكرتك الغربال ، تستعيده وأنت تركض في سمفونية التجليات وأناشيد الوجع البيضاء ، أناشيد يتصاعد هتافها كحمامة الثلج على سارية تصارع الريح ، تتذكر سيد الغناء السوداني مصطفى سيد أحمد رحمه الله وهو يضيء عتمة الروح بالغناء الشفيف ويترتب وجدانك بالبوح حد البكاء ، بوح آسر لا يمتلك معه الإنسان سوى إطلاق آهة ياسلآآآآآآآآآآآآم . ما يزال نص الدنيا ليل غربة ومطر يذبحك من القلب إلى القلب ، منذ أن تسلق أعصابك في أمسية في آخر الشتاء في زمن إنطفأ وذهب أدراج النسيان ، كنت في تلك الليلة المغسولة بالمطر وعطر التعب ، تبحث عن ذاتك الضائعة كمطر في آخر الصيف ، كنت تسوق أقدامك إلى منزل لا يبعد كثيرا عن مكان سكنك في الديوم الشرقية حينما كان العمر بلون البهاء ، كان منزل الراحل مصطفى يطل على برحة ترابية مسكونة بضجيج الأطفال في ساعات الأصيل ، فيما تبدو شاحبة ويكتنفها الصمت في الأمسيات ولا تسمع فيها سوى همهمات الغائبين في حضور الزمان وهم يترنحون من فرط التجليات في عوالم تخصهم وحدهم . كنت تمسك قلبك بين يديك وأنت تعبر في تلك البرحة الترابية ،وتخشى أن يفتعل معك أحد الغائبين شجارا أو يحدفك بحجر يدشدش نافوخك ، بدون أي مقدمات . أتذكر أن عمود الإنارة أمام منزل سيد الغناء كان مطوقا بسك من النوع الصلب ، وأحلق شنبي الجربان لو لم يكن ذلك السلك ما يزال في موقعه ، نعم في موقعه يتذكر تفاصيل سنوات ذهبت من العمر وحكايات ونشيج ولادة أغنيات أصبحت بمثابة القوت اليومي في الذاكرة الجمعية لمحبي الراحل الكبير . تتذكر أن منزل مصطفى كان دوما عامرا بالضيوف من أبناء أهله وقريته وما جاورها من قرى ، أتذكر أسماء بعضهم وآخرين منهم هربت اسماءهم وملامحهم من الذاكرة المجهدة . كنت تجده دوما عنده الجديد يناديك بلغتة العفوية وشبح إبتسامة ما زلت تتذكر تفاصيلها « تعال يا زول أسمع » ، فيلحق بك الصوت الآسر في عالم من النشيج والبكاء والصحو الجميل ، تستعيد هذه المشاهد من كراسة أيامك المصابة بالثقوب ، تتذكرها وأنت في الراهن تركض في صحراء تغيب فيها الظلال ، تستمع إلى سمفونية النوارس الكحلية وتبحث عن وجهك القديم ، وجهك الذي ضيعته طواحين الزمن ، فغرقت في ركض الحياة أدمنتك الغربة وادمنتها من القاع إلى القاع ، تعقد الآن مقارنة بين مطر الغربة الناعم ومطر الخريف وريحة الزيفة في الخرطوم وهي قادمة من الصعيد ، إنه مطر لا يشبه مطر الغربه ، مطر له نكهة الشوارع الترابية ومخلفات ما انزل الله بها من سلطان ، لكن على كل حال إنه مطر يترسخ في ذاتك ويمنحك دفء الحياة .