الاستاذ عبدالماجد السر : مرة أخرى لك من الحروف أرفعها.. ومن الكلمات أنبلها.. ومودة.. واحترام.. واليوم أمر.. وغداً أمر.. وكان لابد لي من أن أتوقف محبوراً عند تلك المحطة.. محطة إذاعة «المساء».. فقد زار أذني صوت الأستاذة ابتهال.. وهل عاقل من لا يتوقف عند تلك الفتاة المذيعة.. التي حاورت بل اصطادت اللؤلؤ من صاري مركب الشعر.. وعمود خيمة الكلم المقفى.. عبد القادر الكتيابي في أمسية ضمخها الشذى ورشها عطر الصندل.. فكانت هدية بالغة الأناقة والجمال والإدهاش وهبتها لنا «المساء» وهي ما زالت طفلة تحبو.. كان الموضوع.. أو السهرة.. عن الثقافة في الوطن البديع.. الذي كان مثمراً ومزهراً في حقول الإبداع والثقافة.. وها هو بلقع تعوي وتصفر فيه الريح.. كان الحضور ابتهال وماريا.. والصحفي أحمد عز الدين وصحفي آخر.. أحمّل بل أحاسب ذاكرتي «المهلهلة» بأكثر المفردات غلظة.. فقد تسرب اسم ذاك الصحفي من ذاكرتي المثقوبة- لا يهم- المهم كنت أنت خامسهم بوصفك القيّم على ثقافة الخرطوم. لن أقول.. إنك كنت في كماشة بين هاتين والصحفيين.. بل أقول «بقلب قوي» إنك كنت «وسط الزهور متصور» كيف لا والموقف كان عن الإبداع.. والخمائل.. وروعة الحرف البديع.. ولوحات فاتنات من التشكيل.. ومسرح.. تنشر خشبته الإضاءة والمعرفة.. ونبدأ الرحلة.. من حيث انتهيت أنت في ذاك البرنامج الخطير.. وكدأب «ناس الانقاذ» والأحبة في المؤتمر الوطني.. هؤلاء الذين يعتقدون بل يجزمون بأن الحياة.. حياة الوطن كله قد بدأت بهم وهم «يشطبون» بنفخة «مكرفون» كل ابداع الشعب السوداني سياسةً وادباً وفناً واجتماعاً واقتصاداً حتى يصير- في نظرهم- هشيماً تذروه الرياح.. ودعني أذكرك بالكلمات التي افتتحت بها مداخلتك أو تعقيبك فقد كانت نصاً «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» وذلك يعني استنكاراً صارخاً للأسى والحزن والأسف عن ابداع لم يغب فقط بل نشاط انساني شاسع دفنته الرمال.. يا صديقي.. وحتى نستهل حديثنا استهلالاً معقولاً ومقبولاً.. دعني أقول في ثقة إنك لست مسؤولاً مطلقاً عن جدب وفقر وبؤس الثقافة في عهدكم تماماً «أنا لا أحس بحقد نحوه.. ماذا جنى حتى تمسه أضغاني؟.. في بساطة ويسر دعني أقول.. إن بين الثقافة بكل ضروبها وفنونها وإبداعها وبين الأحبة«الإخوان» الذين يمسكون بكل مفاصل الوطن.. بين الثقافة وبينهم ً بيد دونها بيد.. إنهم يبعثون من مرقده ذاك الوثيق الصلة ب«هتلر» والذي كان يتحسس مسدسه كلما سمع بأُذنيه كلمة «ثقافة». بل دعني أختصر الموضوع.. لأريك البرنامج الكامل للإنقاذ في باب الثقافة.. ولا بأس من الاستطراد.. أو الإيضاح مستعيناً بذكرى أيام بهيجة.. «راحت ولت يا حليلا».. في تلك الأيام الماسية.. كان كل أو جل «شعب الخرطوم» يغسل أحزانه و «ينفض» متاعبه في صالات العرض السينمائية.. حيث المتعة والتثقيف والجمال والخيال.. الآن ها هي الخرطوم.. وأنت على رأس إدارة ثقافتها.. ليس بها دار واحدة للسينما.. فقد تحولت كل تلك البؤر من الضوء.. وكل تلك المصابيح من المعرفة.. وكل تلك المدرجات التي يتردد بين جنباتها ألوان الثقافة وروعة القصص البديعة.. تحولت هذه الدور دور السينما إلى «كافتريات» للعصير وسندوتشات الطعمية وأحياناً «البيرقر» والحكومة تحوّل قناةً تملأ وتحشد الأرواح والعقول إلى قناة تصب تماماً في البطون.. وتتواصل حملة «الهدم الدفتردارية» لتمسح قلاعاً من السينما.. لتصبح محلات اسبيرات وورش للركشة.. وبعيداً عن العاصمة.. فقد تردّد أو قل سمعنا «تحت.. تحت» أن أحد الولاة قد حشد المواطنين من عضويتكم ليشهدوا هدم السينما الوحيدة بالمدينة.. كان الوالي هو من قام بضربة البداية و«بطورية» حادة الاسنان وهو يصيح.. سقط هبل.. وارتج الفضاء بدوي الهتاف.. هي لله.. هي لله.. بكرة نتلاقى...