من الأمثلة شديدة الدلالة على امتناع العلاقة بين الشيخ والحوار من الانحدار إلى الاستغلال، قصة الشيخ عبد الله العركي في مسيد أولاد جابر. فقد سافر الشيخ العركي، من ديار أهله بالجميعاب في السودان الأوسط، إلى ديار الشايقية طلباً للعلم.. ومكث هناك سبع سنوات لم يقرأ فيها عِلماً، بل كان مشغولاً طيلة تلك السنوات، ب «كِلافة» خيول شيخه عبد الرحمن بن جابر، علم والده بذلك، فأتى غاضباً إلى مسيد أولاد جابر، وهناك وجد ابنه منهمكاً «في حش القش لخيول الشيخ»..! غضب الأب أشد الغضب، ومن شدة غضبه أضرب عن الطعام، و(بات القوى) ورفض أن يتذوَّق لحم الشاة التي ذبحها الشيخ اكراماً لمجيئه.. هنا، طلب الشيخ عبد الرحمن بن جابر، من ابنته أن تصنع «قُرَّاصة من الدخن»، قام الشيخ بعجنها بيديه على لبن بقرة، وأمر تلميذه عبد الله العركي أن يشربها.. وبمجرد أن شربها- يقول ود ضيف الله- «فتح الله عليه العلم، وقرأ قراءة بهرت عقول السامعين..». ولمّا رأى الأب ذلك، أصابه الرِضا، واجاز الشيخ عبد الرحمن تلميذه على الرحيل مع والده بعد أن أسرَّ له (باسم الله الأعظم).. وقال له بنص العبارة التى دوّنها ود ضيف الله: «المُقصِّر إن شاء الله يتم فوق الدرب.. فالعلم كان يرد عليه دخاخين إلى أن وصل».. هذه الكرامة، بغض النظر عن موضوعها الإيماني، تعتبر دليلاً تاريخياً، إذ يمكن تفسير مضامينها في سياق لا يتعارض مع كون العلم جهداً وكسباً،، لا سيما أن الشيخ يُقرّ لتلميذه بأن (المقصر أو الناقص) من المعارف سوف يكتمل (فوق الدرب)، اي بمواصلة عملية التعلم وبإتباع المراشد، على التحقيق.. وصحيح كذلك ، أنّ نصّ الكرامة هنا، قد جنح إلى تثبيت نظرية التصوف، التي لا تحصر التعلم في النقول والعقول، وإنما تُعّول كذلك على أبعاد أُخرى كالرؤيا المنامية، والإلهام والهواتف، والكشف، وسعة التخيل، وحرية الفكر،، حيث أنّ المعرفة لا تتقيد بعالم الشهادة، والعلاقة قائمة بين عالم الشهادة وعالم الغيب،، «لأن الإختلاف بين عالم المادة وعالم الروح، هو اختلاف مقدار وليس اختلاف نوع».. الشاهد هنا، أن ممارسة المريد للعمل اليدوي قد كان وسيلة لهضم النفس، وتجد الشيخ يأمر ابنته بصنع (قراصة الكسرة) لتلميذه- العركي- كلاَّف الخيول!.. أي كأن الشيخ قد تعمَّد ترقية التلميذ بالمشقة، وهضم النفس، ليسمو ويغسل روحه من الكِبْر حتى يتفانى ويتقن التطلع نحو حظوة يتلقّاها كفاحاً، لا بالوراثة فقط، عن أجداده العركيين.. وكما يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني، إنّ الريادة لا تعطى لمن يطلبها، لأن طلب (السِّر) بلاء. إن ديناميكية التطور، قد مضت، تحت مظلة الايدلوجيا الهادية- التصوُّف- إلى علاقات انتاجية أكثر إنصافاً للضعفاء،، والأصل في التاريخ هو التطور وتوالد الحقب، وتدافع المجتمعات البشرية في مسيرة لولبية،، فمن الاقطاع السنَّاري (المزعوم) قد تخرج رأسمالية بشعة، ولا يمكن أن تتقهقر الى اقطاعٍ يتماثل مع نموذج الاقطاع الذي ساد في أوربا!.. على هذا، لا يمكن وصف السيد عبد الرحمن بأنه كان إقطاعياً، بقدر ما كان زعيماً دينياً، سخّرَ وضعيته الروحية في خدمة أهداف وطنية وسياسية، وبنى تنظيماً حزبياً، كان الأقدر على المناورة في حقبة الاستعمار وما بعدها.. إنّ أقصى ما يمكن ان يُقال عن علاقات الإنتاج في مزارع السيد عبد الرحمن، أنّه استثمرَ الولاء الديني في تنمية الثروة، وأن تلك الثروة لم تكن- فقط- لمصلحته كفرد.