تهيأ اتصال مجتمع السودان مع الشعوب الاخرى بطرق كثيرة، فى مقدمتها التجارة، فتحققت بذلك ظروف موضوعية لتفكك المجتمع البدائي، ودخلت مفاهيم سلوكية وثقافية واستهلاكية جديدة.. وتشير الوقائع إلى رواج التجارة بين شعوب السودان وبلاد الحبشة في أوقات السلم، ومع الحجاز واليمن ، ومصر والشام والعراق.. وفي داخل السودان، راجت التجارة بين اقاليم الفونج والفور، و بين الجنوب والشمال، و بين الشمال والصعيد، وهما الاقليمان اللذان يشير اليهما ود ضيف الله باقليمي "العسل والبصل" أي اقليم جنوب الفونج الذي يشتهر بانتاج العسل، واقليم وهو أدْيِرة الرباطاب والميرفاب والجعليين الشايقية والدناقلة ،التي تشتهر بانتاج البصل،.. ويقول ود ضيف الله، أن اسطولاً تجارياً اسطورياً، يمتلكه الشيخ زيادة بن النور بن محمد ولد عيسى سوار الدهب، كان يُبْحر على مياه النيل بين الإقليمين : "عنده قدر سفاين الحجاز من السنة إلى السنة يوديها إلى السافل" .. وكان "الجلّابة" يجوسون بين الربوع بقوافل ضخمة، تكاد تبتلع القرى التي يحلون بها، وتسير قوافل التجارة والحج ، عبر محيط السودان إلى افريقيا وبلاد العرب على طرق معروفة كان يتغنى بها الشعراء.. جاء في مدح الشيخ عجيب المانجلك: "منو ركاب العواتي وهزّاز السيوف الجَّدْ/غير الشيخ عجيب الفتَّحْ دروب الحج".. وعبارة "فتَّحْ دروب الحج" ، توحي بمعنى حراسة تلك الدروب المطروقة، اذ ان فتحها وحمايتها يرتبط بفروسية الممدوح، لكونه صاحب سُلطة نافذة ،تحمي القوافل من اللصوص. ومثلما كان أثر النشاط الزراعي واضحاً على الحِرف عامة، و على التجارة بوجه خاص، فقد اخذت "الغلّة " في بعض المناطق وظيفة العملة. وحيث لا تكون اللغة وسيطاً بين التاجر والناس، كانت تسود تجارة بكماء بتبادل السلع ، كما أُستُخدِمت العملة النقدية في مناطق السلطنة الأكثر تحضراً فكانت العملة فى بعض الحواضر عبارة عن قطع ذهبية أو فضية أو حديدية، أي "مُحلّقات"..كما استخدم كذلك الدمور، و"الرِّيال المجيدي" كعملات مُستجلبة من واقع ارتباط السودان بمحيطه العربي ، ومن واقع ولاء الفونج لظل الخلافة العُثمانية..كل هذه الانواع من العملات كانت متداولة في البيع والشراء، إلا ان المُحلّقات تبدو كالعملة الرئيسية في عهد الفونج، بها يتم تداول اغراض التجارة، وتُدفع كقيمة نقدية في اخراج الزكوات، وتُوهب للمُعسر إعانةً له على الزواج، وتدفع لسداد دين.. كانت العملة أسمى مقتنى، كونها تقع على يد الأولياء من الهواء..جاء فى سيرة الشيخ حسن ود حسونة ، أنّه رَغِب فى سداد دين، " فرفع يده في الهواء المُحلّقات، وقعن في كفيه كع.. كع.. كع"..أنظر الطّبقات ،ص، 138 .. وبالرغم من قيمتها الحية بين الناس الا ان العملة في نظر العاشق العابد ليست سوى "حدايد"، يُشترى بها اللّحم!.. قال الشيخ اسماعيل صاحب الربابة: "النُسوان بلا هيبة أُم قلايِدْ / لحم سُوقاً رخيصْ مَشْرِي بْحَدايِدْ"..ومعنى النص، ان العملة وقد كانت متداولة فى ذلك الزّمان، لا خطر لها في معادلة الوجد والعشق،فهي مُجرّد"حَدايِدْ"، وأنّ النساء بالمقارنة مع أُنثاه المتفردة مجرد بضاعة مُزجاة بعملة زهيدة القيمة!.. والشاهد، ان النظر إلى العُملة - بعيون العاشق – قد كانت محاولة لتصعيد مكانتها بالتوازي مع المرأة التي تُسْتَل سيوف القبيلة لأجلها، وتُوقَد بسببها نيران الحروب، وان افراد مجتمع الفونج كانوا يتداولونها و يتخيرون اعلاها قيمة..وكان"الاشرفي"، وهو دينار ذهبي مملوكي، ضُرِب في عهد الملك الاشرف برسنابي (1422 1438م) ،هو أغلى عملة في ذلك الزمان، كما يبدو في ترجمة الشيخ أحمد بن عبد الله الطريفي في الطبقات..يضاف الى ذلك، أن نص صاحب الرّبابة ، يشير الى غِنى الاقليم بمنتوجات الثروة الحيوانية..