هذه الرواية التي تحولت عام 1968م إلى مسلسل إذاعي نعتبرها أروع رواية وثقت حياة القرية النوبية في القرن العشرين! تحكي قصة المآسي التي وقعت في قرية نوبية فقيرة وادعة في النوبة المصرية، عندما هبط عليها طوفان بسبب قفل خزان أسوان بعد تعلية جديدة عام 1933م. في الحلقات السابقات سردنا كيف تم تهجير القرى النوبية، قصراً من قبل حكومة الباشوات مع تعليات : 1902م- 1912 -1933م.. ثم قلنا إن الشمندورة كانت على شكل برميل أحمر يوضع كعلامة في النيل لقياس الأعماق والمناسيب. وحكينا قصة المؤلف، وهو يبحث عن حل سياسي لمعالجة مآسي قومه، لينتهي في النهاية بتجربة شيوعية غير تقليدية شاربة من عفوية محلية نوبية! وحكينا تفاصيل المأساة والمياه تبتلع القرى، والأهالي يهربون إلى أحضان الجبال ثم ختمنا بالقصة الشخصية للمؤلف الذي جمع مآسيه مع مأساة قومه.. بعد الخاتمة عددنا الدروس والعبر المستفادة من قصة هذه الرواية.. الآن سنحكي كيف بقيت هذه الرواية في وعي الأجيال على شكل أغنية مازالت تُغنى في المحافل النوبية!! *** عرفنا رواية الشمندورة ونحن في سن الطفولة بأغنية الشمندورة التي غناها الفنان النوبي الراحل عبد الله باتا.. الأغنية كانت سباقة إلى وعينا رغم أنها ولدت في الأصل كمقدمة لمسلسل رواية الشمندورة التي أخرجت في إذاعة (ركن السودان) المصرية عام 1968م.. هكذا نقل إلينا ما لا نستطيع تأكيده، ولكن المؤكد أنهما ولدتا معاً؛ بقيت هذه الأغنية في أفواه الناس لأنها لحن خفيف راقص تحكي قصة الإنسان النوبي المعذب بالفقر والتهجير، كما الشمندورة معذبة بين أمواج النيل! وسردنا من قبل أن الشمندورة: برميل أحمر وضعته سلطات الري المصري وسط مجرى النيل النوبي لقياس المناسيب.. كان سكان القرى النوبية يمرون عليها صباح مساء بمراكبهم الشراعية. اتخذها المؤلف في الرواية رمزاً للوجدان النوبي الجريح.. لم يتوقف هذا البرميل عن الحراك منذ أن تم ربطه بسلسلة معدنية في قاع النيل. تماماً مثل الإنسان النوبي.. من (ميلاده) حتى نهاية عمره يظل يقاوم الأمواج والتيار المندفع نحو الشمال ! *** هكذا الإنسان النوبي متقطع الأنفاس بين موقفين متناقضين: مكتف كالشمندورة في مكان ميلاده، ومشدود نحو الحضارة المصرية في الشمال. في (لحظة) من لحظات الومضة الفنية استطاع الأستاذ محمد خليل قاسم (مؤلف الرواية) أن يكتشف هذه العلاقة بين الشمندورة المسجونة في (محليته) والإنسان النوبي الممزق الطموح. *** هذه الأغنية استوعبت الشمندورة كجزء أصيل في مكونات الوجدان النوبي الثقافي.. ثم في خلاصتها كأنما تقول لنا: أي جمال هذا الذي أضاعوه بإغراق بلاد النوبة! *** تبدأ الأغنية بتصوير الشمندورة وهي تتراقص مع الأمواج وحولها المراكب الشراعية النوبية تشق عباب الأمواج جيئة وذهابا. هذه اللوحة التي استدعى بها جمالا أخاذاً؛ تجمع بين صور الشمندورة والمراكب الشراعية ورذاذ الماء الذي تناثر محدثاً سحاباً نتيجة للارتطام المتلاحق للأمواج مع مقدمة المراكب المندفعة! نتيجة لهذه الغلالة الشفافة التي غطت المشهد كاملاً اشتعل وعي الفنان حتى غاص في بؤرة جمالية غاب على إثرها في قاع وجدانه! هناك في قاع الوجدان وجد ما وجده الشاعر السوداني إسماعيل حسن الذي غنى له محمد وردي في أغنية (أسفاي) في تلك الأبعاد السحيقة التي حدد موقعها (محمد وردي) بالقول «جوة الجوة.. الزغرد فيها صوت الناي».. استطاع الفنان النوبي عبد الله باتا أن ينقل الشمندورة إلى هناك !! ومعلوم أن كل ما يصل في قاع الوجدان من صور وأشخاص وأشياء يتحول إلى أضواء.. لهذا استحالت الشمندورة هناك إلى شعلة من أضواء، بل إلى مركز كوني.. هذه النقلة الهائلة أو الاستيعاب الوجداني للشمندورة أحدثت صدمة وجدانية للفنان،. يصفها الفنان بالنوبية هكذا: أيلنًّ مي تله وايوو *************** يقول إن قلبه طار في تلك اللحظة، أو أن قلبه كاد أن يخرج من ضلوعه، بعد تلك الصدمة الوجدانية تبدأ الأغنية عملية تأمل شفافة.. تجيب الأغنية على السؤال الخالد الذي حار فيه الفلاسفة والحكماء وهو: ما هو الحب؟!! الإجابة بالنوبية هي: أيقون إكون دلقدي *********** توو أبولن تو فيّونا ******* الإجابة في غاية من البساطة: يولد الحب من تلاقي قلبين؛ أما أجواء الميلاد فلا تكون إلا على ضفاف النيل! ينتظر المحبوبة حتى (تنزل البحر) لتحمل الماء، فيلتقيا هناك في «ضرا القيف» ليتناجيا.. ويا لها من لحظات كثيفة المعنى، يجتمع فيها الوجود! يقول : هذه الدفقات العاطفية التي تخرج في تلك اللحظة هي التي تغذي زهور الجروف، لتنبت يانعة بين الشقوق !! إذن الحب هنا لم يروِ فقط زهور الجروف وخضرتها، بل هناك إشارة إلى تاريخ جذوع النخل التي تحمل صور الأجداد وهم يعملون في الضفاف! تقول الأغنية النوبية: أنو لم تله ككّو أنا ولم تله ديقو ******** تقول الأغنية: جدي هو من غرس شتول النخيل، وجدتي هي من روت فسائل النخيل. ويختم ويا لها من ختمة موجعة: يقول بالنوبية: تكوّنم كندا دافسا سددن كندا دافسا ************ تختم الأغنية هذا الكرنفال الجمالي بالقول : وضاع كل هذا الجمال مع سدود النيل: خزان أسوان وتعليات خزان أسوان، ثم أخيراً السد العالي.. أغرقت مياه السدود قبور الأجداد وتساقطت القرى النوبية الواحدة تلو الأخرى.. في هذه اللحظات- حكت الرواية - قطعت الشمندورة تلك السلسلة المعدنية القوية وهربت للشمال!! *** إذن: الشمندورة يا صاحبي لم تعد مجرد برميل وسط النيل بل استحالت إلى (لحظة) إبداعية وجدانية اجتمعت فيها: ضفاف النيل، وزهور الجروف، وتاريخ الأجداد، وهمسات الحبيب... هذا التناغم الفريد بين (الرواية) والأغنية هو سبب بقاء هذا (التاريخ) في وجداننا كل هذه السنوات! *** وأنا أكتب هذه الحلقات التي بلغت العشرين كنت استمع لهذه الأغنية لتجديد النشاط!! لهذا إذا استعصت عليك قراءة الخمسمائة صفحة عليك أن تجدد نشاطك بالاستماع لهذه الأغنية، أما إذا كنت لا تتعاطى اللغة النوبية فيكفيك رنة الفرح الممزوج بالحزن في ثنايا اللحن، وخاصة إذا كنت أمام حنجرة الفنان النوبي عادل باتا!