كانت)المسايد) مصدر خير للناس وملجأ لحل المشاكل الاجتماعية والروحية.. وقد يبدأ الفرد أو المريد العادي علاقته بكيان المسيد، الذي هو مركز الوعي الصوفي، عن طريق الزيارة أو بطلب المدد، أي البركة التي يهبها الشيخ لزواره ومريديه عندما" يشيل "الفاتحة" داعياً لهم. وقد تتوطد العلاقة مع مركز الوعي وشيخ الطريق، دون المثول بين يديه، عن طريق إضمار الاستغاثة بالشيخ، أو بحيرانه، للمعاونة روحياً أو مادياً.. وأما بالنسبة للعلاقة المباشرة، أي الانخراط في الطريقة، فإن العلاقة تترقى بالتزام قواعد الطريقة، التي تبدأ بالبيعة، ثم تلقين الوِرد الأساسي للطريقة، وفي هذه الحالة يكون للشيخ إلتزام أبوي تجاه الحوّار، وذلك بتسليكه وترقيته ودفع الضرر المادي والمعنوي عنه، بما له من قوة روحية واجتماعية، وبما لديه من قبول لدى العامة وعند السلطنة. والمسيد هو مركز المعادلة بين القبيلة والطريقة، وهو لفظ عامي يعني السودنة للمسجد، وتنزله في حياة الناس ليكون باسم جديد- المسيد- وريثاً لمجلس القبيلة، وميداناً تتلطف به غلواؤها ومنطلقاتها العرقية والثقافية.. ولقد طغت المعاني السامية المشتركة بين كياني القبيلة والطريقة على وظيفة المسجد، فتجسدت في ربوعه قيَّم النخوة والكرم والإيثار والتراحم وغيرها من نقاط التلاقي بين العرقي والعقدي، لكونه مؤسسة ذات قدرة باهرة على إزالة الحواجز العرقية والقبلية والجهوية. وقد إتخذ الصوفية من وسائط التراث المحلي أدوات لنشر العقيدة، ومع تبسيط مبادئ الدين وثقافته في قالب شعري عامي، اعتمد الشعر الصوفي الإيقاع والتنغيم المحلي ليسهل تلقينه وتشافهه، لتحبيب العامة للانغماس في الطريقة، التي سايرت عاداتهم ومعتقداتهم، وسايرت كذلك،"أوهام حواسهم وعقولهم" حتى تشربوا العقيدة بمرور الزمن. وفي أغلب الأحوال يُحاط شيخ المسيد بهالة من القداسة تتعالى به عن دور الوسيط بين العامة وسلطان الزمان، لأنه قائد الناس في "درب الله" وبذلك فهو في درجة أعلى من الحاكم.. وأهل الزعامة في المسايد هم أعيان القبائل غالباً، إذ انه مع شيوع الثقافة الصوفية غدت الأسر الحاكمة في بلاد النوبة وعلوة وسنار وتقلي ودارفور، تدين بالأسلمة والاستعراب.. وكان شيخ الطريقة – البهاري- قد سلك في الطريق أعيان ذلك العصر، ويقال إن تلامذته تجاوزوا الاربعين(2) من أبناء القبائل، أبرزهم الشيخ عجيب المانجلك ابن زعيم العبدلاب، ورائد النهضة الصوفية في سلطنة سنار، وحجازي باني أربجي، وشاع الدين ولد التويم جد الشكرية، وحمد النجيض صاحب مسجد اسلانج، والفقيه رحمة جد الحلاويين، والعمدة ولد عبد الصادق، وبانقا الضرير، وعبد الله الحمال.." ..الخ. و يتشبع الرقم "أربعين" بمثلوجيا مضمرة، للتدليل على الكثرة، يذكر ود ضيف الله، أن الشيخ ابراهيم البولاد علم "اربعين طالباً كلهم أولياء" وأن تلامذة الشيخ عبدالرحمن بن جابر "الاربعين قد بلغوا درجة القطبانية"..الخ... ويبدو أن ود ضيف الله في هذا السرد قد كان متأثراً بالطبري الذي يقرر أن حواء ولدت لآدم "اربعين جنيناً"، انظر: الطبقات ص48-45.. وبالجملة فإن زعامات الطريقة الصوفية قد كانت هي زعامات القبيلة، ما يعني أن تحوُّل دور مجلس القبيلة، من حالة الفخر العرقي، إلى الولاء العقدي، قد تم في يسر وسلاسة، دون الغاء للنزعة القبلية "المادية" ودون افراط في الروحانية. وكذلك كان الحال في غرب السودان، حيث لم يكن الإسلام مسنوداً بهجرة عربية واسعة كما هو الأمر في حوض النيل، حيث كانت مبادئ التدين العفوي، تتقدم على حساب الانتماء العرقي والإثني، بفضل توسم مشايخ الطريقة / القبيلة للنسبة العربية، وبفضل ولاءهم/ إيمانهم بوهج القداسة..