كان فقيدنا الراحل التجاني الماحي ورغم حرصه وحبه بل عشقه للكتب لم يكن يتوانى في تقديمها للمؤسسات والأفراد كهدايا في المناسبات المختلفة .. فقد كتب البروفسور عبد الرحمن النصري أمين مكتبة جامعة الخرطوم 1959- 1990م (مجلة الخرطوم عدد أبريل 1970م ص 32- 34) «كان عالم الكتب هو عالم التجاني المفضل الذي عشقه منذ صباه ، وكان التجاني يسعى لمكتبة الجامعة حيناً ليهدي الكتب النادرة والمخطوطات والخرائط النفيسة في المناسبات المختلفة ...» ولكل كتاب أو مخطوط حصل عليه قصة يحفظها فقد ذكر لي جانباً منها .. فقال لي بحكم ترددي على باعة الكتب بمصر فقد عرفوا حرصي على اقتنائها وكثيراً ما كانوا يتصلون بي لإبلاغي بالجديد لديهم من الطبعات النادرة .. وكثيراً ما كانوا يبالغون في أسعارهم. فقال كنت بالإسكندرية- آبان فترة عمله بهيئة الصحة العالمية وكان يبحث في مجموعات إحدى المكتبات التجارية بالمدينة فوجد مجموعة من المخطوطات والطبعات النادرة لبعض الكتب ، ولأنه كان يدرك لو سأل عنها لطالبه البائع بأسعار عالية فاكتفى بشراء كتاب عادي وخرج .. وطلب من سائق عربته لٍيذهب لذات المكتبة لشراء تلك المجموعة فجاءه بها بسعر زهيد. كان التجاني أيضاً من هواة جمع التحف وذكر كيف فلت منه طقم شاي من مجموعة الإمبراطور نابليون بونابرت .. فقال أنه كان يتجول بسوق للتحف والأناتيك بفينا (النمسا) فوقع بصره على طقم شاي يتوسطه حرف النون( N) وهو العلامة المميزة لمقتنيات نابليون فسأل البائع بعفوية .. كم يبلغ ثمن طقم نابليون هذا .. وأشار إليه بفترينة العرض .. فأندهش البائع .. وقال له ماذا تقول .. طقم نابليون ! ! وسرعان ما تمالك البائع أعصابه .. وردد .. لا .. عفواً أنه للعرض فقط .. قال فأدركت أن البائع لم يكن يعرف قيمة الطقم. كان خبيراً في المخطوطات ملماً بأنواع الخطوط ونوع الورق والأحبار والتفريق بين الأصل والتقليد .. فذكر كيف حصل على مصحف القائد جوهر الصقلي. عندما اقتناه وأحس أنه مصحف أصلي ولم يجد في التمليكات ما يشير إلى ملكيته لأحد .. ولكنه كان واثقاً من أن المصحف له قيمة أثرية وفنية عالية .. فاستعان بالمتحف البريطاني الذي وجد اسم جوهر الصقلي مضغوطاً على الورق. ويذكر أنه عثر على أبريق نحاسي يخص السلطان الناصر لدين الله الفاطمي وبعينه الفاحصة ومعرفته للخطوط فقد قرأ الخطوط الكوفية المطفرة والمتداخلة فوجد الدعاء وملكية السلطان لذلك الإبريق وذلك مع أحد باعة التحف بسوق الحميدية بدمشق. وقال لقد حصلت عليه وأعطيت صاحبه أكثر مما طلب لأني أدركت بأنه لا يعرف قيمة الإبريق الأثرية. وما زال هذا الإبريق ضمن مجموعة مكتبة التجاني الماحي بجامعة الخرطوم. عن مكتبته ذكر لي في إحدى المرات بأنه ينوي بعد تقاعده النهائي وتفرغه سوف يعمل على تأسيس وتشييد مكتبة عامة بالخرطوم بحري ولتكون مكتبته الخاصة جزءاً منها.. ولكن عاجلته المنية وتوفي لرحمة مولاه في مطلع عام 1970م. ففكرت أسرته بعد أعوام من أهداء مكتبته لمكتبة جامعة الخرطوم فاتصلت الأسرة بأمانة مكتبة جامعة الخرطوم والتي وافقت بقبولها ورفع الأمر إلى مجلس جامعة الخرطوم الذي أوصى بتكوين لجنة من بين أعضائه للنظر في أمر ما يقدم للأسرة مقابل ذلك خاصة أن مكتبة الكونغرس الأمريكي كانت قد عرضت على الفقيد في حياته مبلغ يقارب المليون دولار أمريكي للمكتبة على أن تبقى معه طوال حياته..ولكنه رفض العرض مع العلم بأن الفقيد قد أنفق كل مدخراته في شراء وجمع تلك المخطوطات والكتب. فكان من الاقتراحات التي قدمت أن يخصص معاش شهري لأسرته .. خاصة أن الفقيد لم يكن يحصل على معاش حكومي نسبة لتركه الخدمة والاستقالة من وزارة الصحة للالتحاق بالقوات المصرية متطوعاً أيام حرب السويس وتم الاتصال بمكتب رئيس الجمهورية آنذاك (الرئيس جعفر نميري) لإصدار معاش استثنائي لأسرته ولكنه أجاب بأن ذلك سيكون سابقة وتفتح باباً لمعاشات استثنائية لا يعرف مداها.. واقترح بأن يدفع مبلغ نقدي مقابل ذلك .. بعد تداول الأمر مع اللجنة اقترح السيد سعد أبو العلا أحد أعضاء اللجنة . بشراء منزل بالعمارات ليقدم للأسرة ليكون عائده الشهري بمثابة معاش لأرملته وأبنه الصغير آنذاك وقد لاقى هذا الاقتراح استحسان اللجنة وتم التصديق بمبلغ لشراء المنزل ، وتم دفع المبلغ المتواضع مقابل تلك المكتبة القيمة.