بين اللغة العربية الفصيحة والعامية السودانية البسيطة يكثر الحديث، فإذا كانت العامية تمثل لونية جمالية ذات عمق ومعنى.. والفصيح من اللغة يعدّ أكثر تعبيرًا وصحة، أيهما أكثر عمقاًً وتعبيرًا وأيهما أكثر قبولاً لدى المتلقي وما هي الطائفة التي تؤيد الكتابة بالعامية ومن ينتقدونها ويؤيدون الفصحى ؟ نجوع وقف لدى إفادات متباينة: دكتور عمر شاع الدين أوضح في حديثه أن كتّاب القصة خاصة من المصريين والسوريين يعتقدون أن الكتابة القصصية تكون روحها باللغة الفصيحة ولا بأس أن يُنقل الحوار بالعامية وقدم نموذجًا لكتابات الطيب صالح التي يرى أنه لولا عامية السودان التي برزت فيها لما وجدت مثل القبول والرضا الذي حازت عليه، كما يقول لا بأس من استخدام العامية التي لها أصول عربية فصيحة.. ويضيف أنه ومع أن الدعوة إلى العامية دعوة مبغضة إلا أن مجامع اللغة العربية تناولت هذا الموضوع ولكنها لم تصل إلى رأي قاطع، وإن المستشرقين يتبنون العامية على أساس أنها لغة لها قبول. وختم شاع الدين حديثه بأن الفصيح يباعد المتلقي من المنبر إلا أن القضية غير محسومة فقط الأمر متروك للجهات بحيث كل جهة تنشر بطريقتها وإنما البقاء للأصلح. الشعر شعرٌ بأيّ لغة كُتب الأستاذ الناقد أبو عاقلة إدريس قال ل«نجوع» في إفادة سابقة أنه يرى أن الشعر شعر بأي لغة كُتب وبأي عامية وبأي شكل من الأشكال، حيث لا يهم الشكل الفني الذي يكتب به بقدر ما تهمه الشعرية، ولهذا تتحاور عنده كل الأشكال الإبداعية من قصيدة عامية أو قصيدة بالفصحى عبر أشكالها المتنوعة العمودية والتفعيلة وبقية أشكال الشعر المرسل إلى قصيدة النثر.. إذ يقول إن الشرط عنده الشعرية التي يُعوّل عليها في كل أجناس الإبداع «قصة أو رواية أو نقدًا»، وأضاف أن روايات الطيب صالح كلها تشتمل فيها هذه الشعرية وهذه المغامرة إلى أن تصل إلى مناطق بعيدة جدًا من الواقعية الشعرية وذلك قبل ماركيز بزمان. وذهب أبوعاقلة إلى أن العامية السودانية أقرب العاميات إلى اللغة الفصيحة بدليل شواهد غنية جدًا ومبثوثة في كثير من المصادر وهذا بإفادة علماء اللغة داخل وخارج السودان. الدكتور حديد الطيب السراج قال في حديثه بمجمع اللغة العربية إن عاميتنا السودانية أقرب العاميات إلى العربية الفصيحة وإن دراسته وبحكم تخصصه جعلته يؤكد صلات أهل السودان بالعرب والتي تعود إلى ما قبل الإسلام.. وأضاف أن الشعراء قديمًا في أسواق العرب كانوا يلقون أشعارهم باللغة العربية الفصيحة ويفضلونها على بقية اللهجات، وكذا الخطباء يلقون الخطبة بالعربية ولولا الإلقاء بالعربية لما كانوا يفهمون بعضهم بعضًا، كما قال إن الفوارق بين لغة الكلام ولغة الكتابة بين العربية والعامية لا تتعدى فوارق اللهجات. أما البروفيسور إبراهيم الحاردلو فقد قال في المحاضرة نفسها إننا إذا لم نتحدث باللغة العربية فإنها قطعاً لن تستمر، وإن العربية المكتوبة بها أخطاء كثيرة لذا ينبغي أن نصححها، كما أن كثيرًا من الناس يهتمون باللغات الأجنبية دون العربية، وتساءل: هل يمكن أن نعيد كتابة الشعر العامي بالفصحى، وكيف نبين هذا النوع؟ تكملة للعامية طرحنا هذه المحاور على الدكتور إبراهيم إسحق الذي قال: للاجابة عن هذا السؤال أولى بنا أن نرجع قليلاً إلى تراثنا الشعبي.. فمنذ استيطان اللغة العربية في حواضر السودان، خاصةً بعد القرن السادس عشر أصبح شعراء البادية وشعراء البلاط السلطاني، والمغنون في جميع المناسبات، كانوا كلهم يلقون إبداعهم الشعري بالعامية.. يكفي أن ننظر إلى كتب مثل طبقات ود ضيف الله لنعرف كيف اقتصر إبداعنا حتى القرن التاسع عشر على التعبير الشعري بالعامية.. ولنا دواوين كبيرة في تراثنا السوداني خاصةً في مجال الدوبيت والمديح النبوي.. ظاهرة الانشطار بين العامية والفصحى اختبرناها منذ بداية القرن العشرين، حينما أصبح لدينا بمفعول التأثر بالمطبوعات القادمة من مصر والشام، أصبح للبعض من شعرائنا القدرة على الصياغة باللغة العربية الفصحى، مجاراةً لما يأتيهم من المطبوع الشعري في مصر وبلاد الشام. هذا الجيل هو الذي شهد عمالقة مثل محمد سعيد العباسي، عبد الله البنا، أحمد محمد صالح، توفيق صالح جبريل، وعدد كبير من أضرابهم. أعتقد أن الشعر العامي في السودان طرأ بعد الستينيات من القرن العشرين، وأيضًا تحت تأثير من نجحوا في هذا المجال، خاصةً في مصر مثل بيرم التونسي والابنودي. ويعتقد الابنودي أن معظم شعراء العامية في السودان مثل محمد طه القدال والمرحوم الحاردلو والمرحوم حميد وبشرى البطانة، إنما خرجوا من هذه العباءة.. لا نستطيع أن نقول أي القالبين هو أكثر قبولاً عند القراء. لكنني أعتقد أن شعراء الفصيح يمكن للقارئ أن يسحب دواوينه في حله وترحاله ويتمتع بهم. أما شعراء العامية فلا نستلذّ لإبداعهم إلا من خلال المنابر، وهكذا يكمّل الفصيح العامية ويدعم بعضهما بعضًا.