قال تعالى في محكم التنزيل: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». صدق الله العظيم سورة الرعد الآية «4» في المقال السابق عن النخيل تناولتُ بعضَ ما جاء في كتاب النخيل للقاضي عبد الله أحمد يوسف الرباطابي رحمة الله عليه، وذكرنا خصائص النخل وفوائدها ومنزلتها من الأشجار والثمار وذكرنا بعض الآيات التي نزلت فيها من عشرين آية جاءت في القرآن الكريم. ويرجع سبب الكتابة عن النخيل في المقال إلى الإهمال الشديد في زراعة النخيل في الطرقات داخل العاصمة وخاصَّة ذلك الذي في شارع النيل الأنيق قبالة القصر الجمهوري فبدلاً أن تزيد أشجار النخيل جمال الشارع وحدائق القصر يبست ومات بعضُها وأصبحت في حال لا يليق بهيبة القصر ومكانة النخل. يقول زهير بن أبي سلمى في قصيدة يمدح بها سنان بن حارثة المرّي: وهل يُنبت الخطِّيّ إلا وشيجُه وتغرس إلا في منابتها النخل. قال الشيخ حمزة فتح الله في مواهبه: لا تنبت القناة إلا القناة، ولا تُغرس النخلة إلا حيث تنبت وتصلح. ونواصل اليوم أخي القارئ الكريم الحديث عن النخيل وبعض ما جاء عنه من كثيرٍ مما كتب الشيخ مولانا القاضي عبد الله أحمد يوسف. ونبدأ بالآية الكريمة التي ذكرناها أعلاه «وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ» فالصنوان النخلات تنبت من أصل واحد وفي حفرة واحدة ويكثُر ذلك في بلاد العرب والنوبة ويغلب أن يكون أربع «رقلات» ونقول عنها في الشمالية «خلف أو بنات» وهي النخلة فاتت اليد أو الطويلة. وربما خمس بنات. وغير صنوان المقصود بها النخلة الواحدة والمنفرد منه وتسمى عند أهلنا «بنبونة» وتبقى النخلة صنوان وغير صنوان مثمرة إلى قرن من الزمان ثم يصغر رأسُها وترذل ثمرتُها وتقلُّ وتُسايه أي تثمر سنة بعد سنة «تَعوِل» وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال «أخبروني بشجرة مثل الرجل المسلم لا يحات ورقها وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النخلة». واُخْتُلِفَ في مقدار «تؤتي أكلها كل حين». فقيل كل سنة لأنَّ النخلة تثمر في كل سنة مرة، وقيل ستة أشهر لأنَّه من وقت طلعها إلى طيبها كذلك، وقيل ثمانية أشهر لأنَّ حملها ظاهراً وباطناً كذلك. وقيل أربعة أشهر لأنه من حين ظهورها إلى إدراكها كذلك، وقيل شهران لأنَّه من وقت أكلها إلى قطع ثمرها كذلك، وقيل كل وقت لأن ثمر النخلة يؤكل دائماً فيؤكل منها الطلع والبلح والبسر والرطب فالتمر وهو الأولى لأن التمر اليابس يؤكل إلى حين أما الطري فيؤكل ليلاً ونهارًا. قال الخطيب: قيل الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أن النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قُطع رأسُها يبست وماتت، وسائر الأشجار تتشعَّب من جوانبها بعد قطع رأسها. وأنها تُشبه الإنسان بحيث إنها لا تحمل أو تؤتي ثمرها إلا باللقاح لأنها خُلقت من طينة آدم عليه السلام. ووجه تشبيه كلمة الإخلاص بالشجرة، لأن الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» فكذلك فرع النخلة عالٍ في السماء وتنال بركته كل وقت والشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عِرقٌ راسخ وأصلٌ قائم وفرعٌ عالٍ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقةٌ جارية، أو علمٌ يُنتفع به، أو ولدٌ صالح يدعو له» انتهى وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره. قال العلامة الشيخ يوسف الصفتي المالكي في حاشيته على الجواهر الزكيَّة في حلّ الألفاظ العشماويَّة للشيخ أحمد بن تركي، فإن قلت: قوله إلا من ثلاث يعارض ما رُوي في الأحاديث: إذا مات ابن آدم خُتم على عمله إلا عشرة أو إحدى عشرة، فذكر هذه الثلاثة وزاد، غرس النخل ووراثة المصحف والرباط في الثغر وحفر البئر وإجراء النهر وبناء بيت للقريب وبناء مسجد لله تعالى وتعليم القرآن، فهذا يفيد أنَّهم أكثر من ثلاثة والحديث الذي ساقه الشارح وهو الحديث المتقدِّم يُفيد أنهم ثلاثة فحصل تعارض بين الأحاديث، فالجواب أن وراثة المصحف وتعليم القرآن يدخلان في قوله يُتنتفع به، والتسعة الباقية داخلة في قوله صدقة جارية، وقد نظمها في آبيات من بحر الوافر فقال: إذا مات ابنُ آدم ليس يجري.. عليه من فعالٍ غير عشرٍ علومٌ بثَّها ودعاءُ نجل.. وغرسُ النخل والصدقات تجري وراثةُ مصحفٍ ورباط ثغرٍ.. وحفرُ بئرٍ أو إجراءُ نهرِ وبيتٌ للغريبِ بناه يأوي.. إليه أو بناءٌ محل ذكر وتعليمٌ لقرآنٍ كريمٍ.. فخذها من أحاديثٍ بحصر { لقاح النخل شهر فبراير ومارس هي أشهر حمل النخل «جبيبها» وهو وقت لقاح النخل والنخلة تلقح على خلاف بقية الأشجار المثمرة. واستلقحت النخلة آن لها أن تُلقح ويتم ذلك في وقت معلوم يقدره صاحب النخيل. ويقول العرب، أتانا زمن الجباب أي التلقيح للنخل وقد جبوه لقحوه. أهل المدينة يقولون كنا في العفار أي إصلاح النخيل وتلقيحها وجاء في كتاب النخيل أن ذكران النخل هي الفحاحيل وأحدها فُحال، وهي الفُحول أيضاً وأحدها فحل وعند أهلنا في الشمالية يقال له «الضكر». ويقال، ربما نظرت النخلة إلى الفحال البعيد عنها فصبت إليه فلا ينفعها تلقيح حتى تلقح منه. ويقال صبت النخلة تصبو، وإذا امتنعت النخلة من الحمل وقيل استفحلت أي صارت كالفحل. ويُطلق على النخل منذ بدايته من الأسماء: «ودية ثم فسيلة، ثم اشاءة ثم جُعلة وجمعها جُعل ثم جبارة ثم عضيدة ثم رقلة ثم مجنونة وهي أطول النخل. ويقال للنخلة الطويلة بلغة أهل المدينة رقَلة، وفي لغة أهل نجد عيدانة، وفي لغة أهل عمان عَوَوانة وفي البحرين صادية، ونخلة مُطلِعة إذا طالت عن سائر النخل بجوارها. ومن أطول النخل التي شاهدناها في الشمالية كانت نخلة أو تمرة علي ود قمبور في مشروع القرير وكان يهتدي بها السيارة من الأعراب عند نزولهم إلى البحر من صحراء بيوضة وبواسطتها يحددون اتجاه نزولهم. ومن أجود التمور عندنا في السودان وأكثرها معرفة بين الناس، البركاوي والقنديل والكلمة والتمود «بت تمودة» والعجوة بأنواعها المختلفة وهي أكثر التمور حلاوة وعسلاً وقيل عنها تمرة مريم عليها السلام. ومن التمور المشهورة المشرق وودلقاي وذكر مولانا القاضي عبدالله أن من جاء به من الحجاز رجل اسمه ودلقاي ولذلك سُمِّي باسمه وأول ظهوره وزراعته كان بالقرب من جزيرة مقرات ويُعرف رطباً في بلاد العرب بالسكري. ومن المشرق ود خطيب وهو يشبه ودلقاي في خصائصه وجاء به أيضاً من الحجاز رجل اسمه بشير ود خطيب وأول نخلة غُرست منه غُرست في جزيرة مقرات. والبركاوي من أكثر التمور إنتاجاً في السودان وهو مقاوم لآفة «السوس» وسعره في متناول اليد وعندما يجف ويهرس ويُغلى مع الحليب الطازة يصبح وجبة خطيرة. وكان آباؤنا وأجدادنا يحرصون على تناول الحليب بعد العشاء مع حسبة من التمر البركاوي. ومن أندر التمور في الشمالية ما يسمى بالكرش ويُنسب لصاحبه وإنتاجه ليس للتسويق لأنه قليل ودائماً يستمتع به أصحابُه وأهل الساقية والماشي والغاشي وهذا ما يجعل أشجار التمور كلها صدقة جارية لمن غرسها. وكرشة ابنعوف بالقرير التي ذكرتها في مقالي السابق شيء بديع لا يمكن وصف ثمارها أو وصف حلاوتها ونكهتها ولحمها. وعندما عرضت ثمارها على مجموعة من الخبراء السعوديين والمصريين في التمور قالوا عنها لا تقل عن «المجهول» بل أكثر حلاوة وأكثر لحماً وأصغر نواة. تعليقاً على المقال الأول عن التمور وصلتني مشاركة من أستاذنا مالك الزاكي، المتابع دائماً لما نكتب، عدَّد فيها فوائد التمور، ولضيق المساحة اليوم سنفسح له المجال لاحقاً والشكر لأستاذنا مالك. ونواصل...