تبدو حالة من النشاط في مجال التشريع وإصدار القوانين تجتاح المجلس الوطني وهو في خاتمة عمره الافتراضي، هذا إن لم يجدّ جديد في ملعب السياسة السودانية المفتوح على احتمالات كثيرة.. ففي أسبوع واحد نجد المجلس يطلب مثول السيد وزير الصحة الاتحادي أمامه لسؤاله عن تعطيل قانون التبغ في مجلس الوزراء، كما استعجل البرلمان مجلس الوزراء نفسه حاثاً إياه إيداع قانون الهيئة العامة للإمدادات الطبية وقانون الرقابة على الأطعمة منضدة التشريع بالمجلس لإجراء التعديلات اللازمة عليهما. صحيح أن أجل البرلمان لم ينته وما زال أمامه حوالى الخمسة أشهر، إلا أن ثمة سؤال يبرز ويطرح نفسه وهو إن كانت مثل هذه الفترة القصيرة تتيح للمجلس فرصة كافية لإجراء مداولات متأنية ومتعمقة حول قوانين نحسبها هامة وحيوية لجهة أنها قوانين ذات طبيعة خاصة وتتصل مباشرة بصحة وحياة الناس وتتطلب مشاورات واسعة مع كثير من المختصين، سواء عبر النوافذ الرسمية والمؤسسات أو من أهل الخبرة والرأي والتخصص من خارج تلك المؤسسات. لاشك أن الإخوة النواب يدركون أهمية طرح واستجلاء آراء كل المختصين في مثل هذه القوانين ذات الطابع المتخصص والفني حتى يتم الإلمام بكافة جوانب القضايا التي يعالجها القانون المعني، وبالتالي تتأتى للبرلمان إمكانية إقرار قانون تستوعب نصوصه كل التفاصيل بشمول وواقعية مما يجعل إنفاذه أمراً عملياً وممكناً ومفيداً. لا أدري إن كانت هذه القوانين التي طلبها المجلس قد طرحت لأي مداولات وحوارات متخصصة أو مجتمعية، إلا أنه من المهم أن نبتدع آلية أو آليات لطرح القوانين وتعريضها لحوارات مختلفة سواء داخل قطاعات مجلس الوزراء أو داخل لجان المجلس الوطني المعنية، لاستجلاء كافة أو أغلب وجهات النظر حولها، إذ أن حوارات مثل تلك التي نقترحها هي أمر حيوي ومصدر معرفة مهم، فالنائب في أغلب الأحيان هو شخص غير مختص في القضايا ذات الطابع الفني. «2» لنأخذ مثلاً قانون التبغ، الذي لم أتمكن من الاطلاع عليه، إلا أنه من خلال ما صدر من قبل من قرارات وقوانين ولائية في شأنه، إضافة للجوانب الصحية والاجتماعية المتعلقة بالتبغ نفسه يجعل من السهل على الناس معرفة المجالات والمسائل التي ستتعامل معها أبواب وفصول القانون ونصوصه المختلفة. لا يختلف اثنان حول مدى خطورة التبغ على صحة المواطنين وعلى الصحة العامة، وهذه الآلاف من أطنان المواد المتطايرة من «حقق التمباك» المنتشرة في كل ركن تعلن عن الخطر الماثل وتبيّن حجمه. كما أنه لا خلاف حول ضرورة الحد من تلك الخطورة ومحاصرة التبغ، استيراداً وصناعة وزراعة وتداولاً.. والاتفاق في هاتين النقطتين السابقتين لا ينفي أن خلافاً، وربما خلاف كبير، سينشأ حول طبيعة النصوص القانونية المطلوبة لمحاصرة أخطار التبغ ودرء مخاطره.. فأي نصوص تلجأ للتحريم وتغليظ العقوبات ستظل عاجزة عن مكافحة انتشار التبغ، خاصة «التمباك»، إذا لم تبتدع نصوص القانون آليات أخرى في معية آليات التحريم والعقاب لدرء الخطر، خاصة أن البعد الاقتصادي سيكون حاضراً بقوة عند أي معالجة لقضية إنتاج التبغ، تصنيعاً كانت أم زراعة. الملاحقة القانونية والتضييق الإداري ومنهج العقاب وحده ربما يؤدي لاستشراء واستفحال الأمر، وهذه دروس يجب أن نستصحبها من واقع قوانين ولوائح صدرت في أوقات مختلفة في الماضي القريب. قبل سنوات قليلة شمرت السلطات عن ساعدها وتم التضييق على تجار ومروجي وزارعي «البنقو» عبر آليات القانون، وكانت النتيجة ضبط كميات كبيرة من المخدر، وصاحب ذلك ارتفاع مريع في أسعاره إلا أن كل ذلك الجهد الكبير لم يكن له كبير أثر في امتناع المدمنين عن تعاطيه، رغم مخاطر تعرضهم للضبط ورغم ارتفاع سعر المخدر، بل وقد تحول الكثيرون إلى ما هو أخطر منه وهي المواد المخدرة الأخرى «الحبوب».. وببساطة كان المستفيد الأول من ذلك الوضع هم تجار المخدرات ومنتجوها كما أن الهدف الرئيس من القانون لم يتحقق بصرف الناس عن المخدر عبر تقليل العرض.. هذا لا يعني أن عمليات المكافحة أمر لا فائدة منه، كما أنه لا يعني ترك الباب شارعاً لمروجي المخدرات، ولكنه يعني أننا بحاجة لاستكمال أهداف القانون بإجراءات وآليات أخرى اجتماعية وعلاجية واقتصادية وإعلامية.. هذا مثال نسوقه للإخوة النواب قبل إيداع قانون التبغ على منضدة المجلس مطالبين بضرورة إجراء حوار حوله على مستوى تخصصي وعلى مستوى مجتمعي حتى لا يكون قانون التبغ القادم مجرد إضافة قانون جديد لترسانة قوانيننا دون أن يكون له أثر في حياة الناس. أملنا في قانون تستوعب نصوصه مكامن الخطر وتعمل على درئه، خاصة إذا نظرنا لاستشراء استخدام التبغ بكل أشكاله، جغرافياً وبين كافة طبقات المجتمع.