كان يوم أمس الجمعة ضبابياً في الخرطوم، ليس بسبب ذرات الغبار المعتادة، إنما بغبار آخر. فقد كان حفيد غردون الذي حملته الصحف، وصورته يجالس حفيد الإمام المهدي في أمدرمان، مزيّفاً. وكذلك، كان السيناتور الأمريكي الذي جلس في حضرة وزير الخارجية وتحدث عن عدم (عدالة) العقوبات الأمريكية على السودان، هو الآخر لم ينج من التزييف، لقد كان مجرد تاجر. معادلة التزييف لم ينج منها حتى الراعي السوداني ذو الفعل النبيل في المملكة السعودية. لنتجاوز حالات التزييف ونقف برهة أمام لحظة للحقيقة. سنعتمد هذه المرة على وزيرة التنمية الاجتماعية السابقة أميرة الفاضل وهي تضع الحقيقة بلا رتوش. قالت أميرة إن المجتمعات العربية والسودانية تعرضت لهزّات قيمية عنيفة. وتمضي مديرة مركز دراسات المرأة التابع لجامعة الخرطوم (مدا) في حديثها لتلقي باللائمة على ما أسمته التقدم "التكنولوجي" وحالة الاغتراب التي يعاني منها الشباب، بفعل المؤثرات آنفة الذكر، ما جعل المجتمعات، بحسب أميرة، أكثر ابتعاداً عن القيم الدينية والوطنية، وأبعد ما يكون عن معايير الضبط الاجتماعي، مثل (الدين). استناداً إلى قول الوزيرة السابقة فإن الاغتراب القيمي يبدو ماثلاً حين تقرؤه مع الحراك العام في بلاد السودان، يمكنك أن تتبعه مع حراك قضية "فتاة الواتساب الأجنبية وهي برفقة فتيان سودانيين، وقد دخلت لقطات الفيديو معظم البيوت". ربما ينعكس المشهد مع مشهد آخر في الوسيط الناقل "الواتساب"، كان المتجاوز للقيم في المشهد الأخير رجل أو شاب مع (حفرة) دخان. إذن فالغبار يلوّث كافة الأمكنة. خطوة أخرى وخبر صادم في اتجاه ثالث، ثمة عائد بشهادة جامعية مزيفة، يلتقي آخر يقوم بتزييف العملات في مكان ما. هذا غير جرائم من يقتل أباه. كل الأمور تمضي إلى اتجاه ما قالته الوزيرة أميرة سابقاً، ويؤكده المشهد الحالي: :"إن السوداني لم يعد هو ذلك الزول العديل"، أو بمعنىً أقل حدة هو أن رياح التغيير تضرب ذلك البنيان المرصوص على هدى قيم توارثتها الأجيال تباعاً، وتعاطت معها باعتبارها "ضوابط للسلوك العام"، في البيوت والشوارع. الخرطوم تبدو مدينتين لمن يدور فيها من حدها الأقصى إلى حدها الأدنى. رسمهما ذات صباح مشرق بالشعر الراحل محمد الحسن سالم حميد: "ناساً حالها زين، وناساً حالها دين". يكدح أولئك الذين يستوطنون أطراف المدينة، بالأجر، ويسكنون في جحور الإيجار بذات التوصيف (الحميد). هم من تدثروا أمس بحمرة اللحظة، يحتفون بالعيد، وبحبهم يملأون الجادة والساحات، يبحثون عن فرحتهم حتى ولو يسرقونها من (الفتاوى) التي تحرم الاحتفال بأعياد النصارى. لا أحد ممن يجالسون حبيباتهم أمس يعرف عن "القديس" فالانتاين شيئاً سوى ارتباطه بعيد الحب... أحدهم من خلف ابتسامته يرد ويبرر لاحتفاله بأنه "ساعة للفرح، جاءت، للمصادفة، يوم الجمعة... دعنا نستمتع". ثم يمضي لإنجاز مطلبه الخاص، ويجلس تحت ظل الشجرة، ويطلب كوبين من الفرنسي "القهوة باللبن" من بائعة الشاي بالقرب من غابة "ديجانقو"، أمراة من 13 ألف بائعة شاي يتقاسمن تقاطعات المدينة وأزقتها. وتقول آخر الأخبار القادمة من الغابة أن الحكومة فرضت رسوما للترفيه، يدفعها الداخلون إلى الغابة. في اتجاه آخر فإن أولئك النسوة يحملن بعض وزر التهتك القيمي التي تتحدث عنه الأرقام الرسمية والشوارع الشعبية، خصوصاً "الأجنبيات" ممن يمارسن مهنة بيع الشاي في الطرقات السودانية. كثيرون يشيرون بشكل رئيسي في تحليلهم للتغير الاجتماعي الذي ضرب المجتمع السوداني إلى حالة الانفتاح على الخارج، أو إلى التوافد الاجنبي على الحدود السودانية، وهو أمر قد يبدو منطقياً في حال الاختلاف القيمي والثقافي بين مجتمع المقيمين والوافدين. لكن وجودهم نفسه يخضع إلى قواعد قانونية تخص الدخول، ومن ثم عملية التعامل داخل حدود دولة تصنفك باعتبارك أجنبيا، وهو أمر جعل الكثيرين يطالبون بضبط الوجود الأجنبي في السودان، وفقاً لمعايير الأخلاق السودانية. لكن تحميل عملية التراجع القيمي في السودان على العوامل المتعلقة بزيادة وجود الأجنبي أمر يبدو منافياً لمنطق الأشياء، ويدحضه الواقع الآن. فبجانب وجود الأجنبي فإن للعوامل الاقتصادية دوراً لا يمكن إغفاله في مثل هذا النوع من التراجع؛ فارتفاع نسبة الفقر بين سكان السودان تلعب دوراً متعاظماً في عملية الأخلاق... والمال يبدو عاملاً مؤثراً في الحراك الأخلاقي في المجتمعات، وبجانب الحالة الاقتصادية المتراجعة، فإن ازدياد رقعة المواجهات العسكرية والحروب ومترتباتها من نزوح وهجرة... وتغيير المهن ونمط الحياة، كلها عوامل تساهم في حالة التراجع الأخلاقي، ففي غياب حالة الأمان الاجتماعي يمكن أن تندفع كثير من السلوكيات الجديدة في المجتمعات التي تقوم على أسس غير موضوعية أو لظروف طارئة. محدثي عبر الهاتف أستاذ الاجتماع السياسي الدكتور عوض سليمان بجامعة النيلين يفسر هذه الظاهرة من خلال وضعها في أبعادها السياسية، مؤكداً أن غياب عملية الاستقرار السياسي لها مترتبات اجتماعية تبدو على درجة من الخطورة، وهو الأمر الذي يمكن من خلالها تفسير مثل هذا النوع من الظواهر، بالإضافة إلى غياب القدوة في المجتمعات، باعتبارات تأثيرها الأيجابي في عملية نقل الأدوار بين الأجيال المختلفة، يقود لما نعيشه الآن، مع إمكانية تفاقمه في حال لم تضع له المعالجات المنطقية والموضوعية، وهو الحديث الذي يقودك في اتجاه آخر للحديث المتداول حول ما يمهد له بصراع الأجيال، وانتشار التوصيفات السالبة لكل فعل شبابي آني، باعتباره سلوكاً يعبر عن جيل كامل يعاني من الاغتراب، بتوصيف الوزيرة السابقة، ويعاني من اللامبالاة في أفضل الأحوال. عند الآخرين هي توصيفات يتجاوزها شباب الجيل الجديد، متوسدين فقط عبارتهم الموضوعة في مكان الجرح وموجهة إلى الكبار ممن يصفونهم: تبكون كالنساء على جيل لم تساهموا في صناعته كالرجال". أو كما قال مجاهد ذو العشرون عاماً وهو يواصل مسيرته في اتجاه شارع الحوادث متوسداً حلم جيله في إكمال "غرفة العمليات" التي عجزت عن إنجازها وزارة الصحة. حالة الضباب عادت مجدداً، فقد جادت الأخبار أن الراعي الذي استضافته قناة الشروق لم يكن هو الراعي المعني. وحتى إشعار آخر، على الراعي المزيف أن يستمتع بالأبهة، حتى نجد الراعي الحقيقي. ولكن علينا أن نبحث عن الضمير السوداني، فهو الأحق بالبحث أكثر من الراعي