قراءة في تقرير داهليم أسامة بابكر حسن [email protected] قائمة طويلة من الاختصاصيين فشلوا من التنبؤ بالأزمة المالية العالمية عندما كانت في طور الاختمار، ويتربع قمة هذه القائمة المصرفيين، وكبار المتعاملين مع مؤسسة ((وول ستريت))، بالإضافة إلى صناع النظم والقوانين المصرفية إضافة إلى مصرف الاحتياطي الفيدرالي، يشاركهم في ذلك قطاع كبير من الصحفيين، ومقرضي الرهن العقاري، ووكلاء العقارات. وإن عُذرت القائمة المذكورة لأسباب معلومة وغير معلومة، فما من عذر يمكن أن يقدمه المنظرون والأكاديميون الاقتصاديون!! وهم الأكثر تأهيلاً والماماً من غيرهم بمجريات الاقتصاد، والنظر حولهم وأمامهم لاستقراء ما قد يكون عليه الاقتصاد وبالتالي التنبؤ المبكر بكارثة الأزمة المالية وغيرها من الازمات الاقتصادية ودق ناقوس الخطر قبل حدوثها. وان كان بعض الاقتصاديين في بدايات نُذر الأزمة حذروا من أن أسعار المنازل ما هي إلا فقاعة bubble سرعان ما ستتلاشى إلا أن هذه الرؤية لم تتعمق من خلال تلمس استبصاري لهذه الفقاعة والضرر الذي سينتج عنها. كذلك عزى بعض الاقتصاديين أن الانحراف المهني للاقتصاد الحر وأدوات التحليل البسيطة والبالية التي يتم استخدامها صرفت زملائهم الاقتصاديين عن التنبؤ بخطر الأزمة المالية العالمية. العديد من الاقتصاديين لم يفوتهم وقوع الأزمة المالية فحسب بل اطمأنوا إلى عدم وقوعها فعلياً، وأغلبهم استخدموا انماط حسابية فشلت في تحديد الأدوار الخطيرة التي تلعبها البنوك والمؤسسات المالية الأخرى في الاقتصاد، إضافة إلى أن العديد من البنوك المركزية في العالم تستخدم نفس الانماط الحسابية، ويعتبر تجاهل الاقتصاديين للدور الذي أصبحت تلعبه البنوك والمؤسسات المالية من الاسباب الرئيسية التي فوتت عليهم التنبؤ باندلاع الازمة وتفاقمها. يلاحظ خلال الثلاثين عاماً المنصرمة أن الاقتصاديين قد استكانوا للرأي الأكاديمي التقليدي Academic Orthodoxy القائل (( الدورات الاقتصادية للاقتصاد الفعلي تتكون من المنتجين والمستهلكين والسلع والخدمات، إلا أن المفكرين والأكاديميين الاقتصاديين الحاليين قد تجاهلوا دور البنوك والمؤسسات المالية الأخرى وقللوا من دورها الحاسم في تنظيراتهم الاقتصادية والأكاديمية ودورها في الأزمة المالية العالمية ، فالملاحظ أن الأقسام الرئيسية للدراسات الاقتصادية في العديد من الكليات في العالم تولي تدريس البنوك في برامجها الدراسية عناية أقل، هذا إن لم تتطرق إليها البتة، وقد بات مهماً دمج دراسة البنوك في المفهوم القديم للدورة الاقتصادية حيث أنها فرضت نفسها في الحياة كعامل حاسم يجب أن يضاف للنظرية الاقتصادية القديمة والتي ترد دورة الاقتصاد الفعلي للمنتجين، والمستهلكين والسلع والخدمات، والنظر في الدور الذي أصبحت تلعبه هذه البنوك حتى على المستوى الشخصي للمستهلكين وتوجيه الطبائع الاستهلاكية القديمة لهم من خلال آليات جديدة تبتكرها بين فينة وأخرى.فان كانت الدورة الفعلية للاقتصاد يتحكم فيها الإنتاج والمستهلك والسلع والخدمات فقد أصبحت العديد من البنوك لاعباً أساسياً فيها كونها منتجاً، ومقدماً للسلع والخدمات للزبائن، بالتالي أصبحت تشكل 75% في المفهوم القديم لمقومات الدورات الاقتصادية، إلا أن المؤسسات المالية والبنوك عالجت الأزمة بمسكنات فقط بإنشاء منتجات محفوفة بالمخاطر وتشجيع الاقتراض الزائد بين المستهلكين، والدخول في سلوك استهلاكي محفوف كذلك بالمخاطر، أضف إلى ذلك أن الأكاديميين الاقتصاديين اعتمدوا على الطرق الرياضية بمعونة القوة الكبيرة للحاسوب لتحديد كيفية تفاعل القوى الاقتصادية المختلفة مما كان يؤدي إلى نتائج مختلفة وغير محددة. ويقول أستاذ الإدارة سيدني جي وينتر بأن الاقتصاديين خلال الأزمة فقدوا بوصلة تحديد العوامل الحاسمة التي تتضمن دراسة السلوك الإنساني، ودراسة توقعات الناس للمستقبل. ومن أكثر الأمثلة في فشل الاقتصاديين وكبار الشركات في التنبؤ بالأزمة المالية العالمية هو عدم الاعتراف بحقيقة أن أسعار المنازل لن تتمكن من الاستمرار في الارتفاع أسرع من مداخيل ملاك المنازل. والملاحظة الأخرى هي أن أغلبية الناس كانوا يعولون بشدة سواء مادياً أو فكرياً على ان أسعار المنازل ستظل في ارتفاع بلا حدود وهو اعتقاد غريب، غير أن الأغرب هو عدم تصدي مجموعة كبيرة من الأكاديميين الاقتصاديين لدحض هذا الرأي، مما يدلل أن أغلب الاقتصاديين ورغم أن بعضهم تنبأوا بفقاعة الرهن العقاري إلا أنهم فشلوا في التنبؤ بنتائجها. في بحث قدمه ثمانية اكاديميون اقتصاديون اوروبيون واميريكيون أشار التقرير الى أن الاكاديميين الاقتصاديين كانوا بعيدين للغاية من دورة الاقتصاد الفعلي للتنبؤ بحدوث الازمة. ديفيد كولاندر – كلية ميدل باري، وهانز فولمر- جامعة هامبولدت، وآرمن هاز – معهد بوتسدام لبحوث تأثير المناخ، ومايكل جولدبيرج – جامعة نيوهامشفير، وكاترينا جيوسيلوس- جامعة كوبنهاجن، وآلن كيرمان – جامعة دايكس مرسيليا، وتوماس لكس - جامعة كييل، وبريجيت سلوث - جامعة ساوثرن دنمارك قدموا تقريراً تعارفوا عليه بتقرير داهليم أشاروا فيه الى أن الخبراء الاقتصاديين بدوا غير مدركين للازمة المالية التي ظلت تبني اسس ظهورها منذ مدة طويلة، وكذلك فشلوا من تقييم ابعادها عندما بدأت. وأكد الباحثون الثمانية ان سوء الفهم الذي صاحب الازمة المالية نتج من سوء توزيع جهود البحوث الاقتصادية، ومن خلال تتبعهم لجذور هذا الفشل اتضح لهم اصرار المختصين الاقتصاديين في انشاء انماط تتجاهل العناصر الرئيسة الواقعية الدافعة للمداخيل في الاسواق العالمية. ويشجب التقرير اعتماد الاقتصاديون على انماط الحساب الاقتصادي التي مضت عليها 30 عاماً والتي تم الزعم من خلالها بأن الاسواق والاقتصاديات مستقرة حسب الموروث الاقتصادي، وتجاهلوا تاثير عوامل مثل اختلاف الاقتصاديات الكبيرة في كيفية اتخاذ القرارات، ومراجعة انماط رؤاها المستقبلية، والتأثير المختلف للعامل الاجتماعي على كل اقتصاد. اضافة للفشل الجزئي للمعيار التحليلي بسبب الاستخدام الواسع للمنتجات المالية الجديدة بفهم ضعيف، وعدم فهم التشابك والتداخل المتزايد في النظام المالي العالمي. هناك حالتان لم تتم الافادة منهما واستنباط كيفية تراكم الانماط المطبقة في خلق الازمات والتي كان يمكن ان يبني عليها الاقتصاديون ليتنبؤا بما سيحدث، الحالة الاولى انهيار سوق المال في عام 1987 بسبب انخفاض طفيف في الاسعار مما تسبب في مبيعات ضخمة في أوامر البيع في برامج تداول السندات المحوسبة مما تسبب بدوره في هبوط أكبر في الاسعار تسبب بدوره في مبيعات السندات بالارتكاز على تنبؤات الحاسوب. الحالة الثانية كانت في عام 1998 وتتعلق بالادارة طويلة المدى لصناديق التحوط والتي بنت لنفسها وضع كبير في السندات الحكومية للولايات المتحدة وبلداناً أخرى والتي اُجبرت على القيام بموجة من البيع بعد الهبوط الحاد في أسعار السندات الحكومية الروسية . فحدوث عدم وفاء في دفع أحد أنواع السندات يتسبب في اعادة تقييم جميع المخاطر المحتملة، ويعلق استاذ الاقتصاد ريتشارد مارتسون على هاتين الحالتبن بعدم استفادة الاقتصاديون منهما بطريقة جيدة رغم ان هاتين الازمتين اوضحتا بان شركاء السوق قد يعتمدون بشدة على الاعتقاد بامكنية سرعة التحرر من عبء السندات الهابطة الاسعار بينما يتناسون أن حركة هبوط السوق قد تحدث بسرعة فائقة وخادعة وتتسبب في خسائر للمستثمرين أكثر مما كانوا يتوقعون. ولكن في الازمة الحالية يقع كثير من اللوم على الاقتصاديين بسبب عجزهم الكلي من الاخذ في الاعتبار مخاطر السيولة. الازمة المالية العالمية تفرض على الاكاديميين الاقتصاديين مراجعة المناهج الدراسية في المجال التجاري والاقتصادي والمالي، وقد قام الاستاذ ستيفن جي كوبرين بالدعوة الى تضافر جهود الاكاديميين الاقتصاديين لمجابهة الازمة، وكيفية رفد البرامج الدراسية بالمزيد من مجالات النظم المالية، وادارة المخاطر، والبرامج التعليمية للتنفيذيين من واضعي النظم المالية والمسئولين الحكوميين. مع التأكيد على تشارك الاكاديميون مبدءً ثابتاً لإعادة تقييم واختبار فكرة الاقتصاد الحر ونظمه.أكد البحث على أهمية انشاء افتراضات جديدة في الانماط السائدة بمعزل عن نظرية الاقتصاد الكلي التقليدية ليتمكن شركاء السوق من مصرفيين ودائنين ومقترضين ومستهلكين من السلوك المنطقي في جميع الاحوال وبوعي يجعلهم يتفهمون دورة الاقتصاد الفعلي الجديدة للتعرف على الخيارات الصحيحة من بين الخيارات الاقتصادية وخيارات الاسواق المتشابكة. دعى الباحثون الى الاعتماد على السلوك الاقتصادي المنطقي للناس بنفس الكيفية التي أسس لها علمي النفس والاجتماع، وأكد على ان تصرف بعض الافراد بعقلانية في التعاملات الاقتصادية يجب الا يعني للاقتصاديين بأن مجموعات بشرية كبيرة ستنفعل مع ظروف محددة كما يحدث للافراد. بالتالي لا بد ان تتلائم صياغة النمط الاقتصادي مع الاستبصار الذي ارسته فروع الدراسات الاخرى حول السلوك الانساني وأهم هذه الدراسات هما علم النفس وعلم الاجتماع.