هناك فرق. رجلٌ أخطأ ..! منى أبو زيد من الحوارات التلفزيونية المطرزة في قماش ذاكرتي، حوار برنامج (زيارة خاصة) على قناة (الجزيرة) مع السيّد (الصادق المهدي) .. و حوار برنامج (بلا حدود) على ذات القناة، مع الدكتور (بطرس غالي) .. مع حفظ الأبعاد الإنسانية، والمسافات السياسية، و\"الكاريزما\" الشعبية، لكل منهما بالطبع ..! ما زلت أذكر مشهد \"استيضاح\" محاور الإمام (الصادق المهدي) إيّاه عن مفارقة اعتراضه الأسبق، في نهاية الستينيات على الجمع بين (الإمامة) و (رئاسة الحزب) في عهد الإمام (الهادي).. ثمّ حرصه (هو) على الجمع بعد ذلك بين ذات \"الحُسنَيين\" ..! ثم إنني: مازلت أذكر تلك الإجابة الفلسفية، (دهليزية) الطابع، والتي جاءت محصلتها، \"بعد لأي\"، وبلغة المعادلات (فاي)..! أي والله .. فلا رفض المبدأ في الماضي بحسب تلك الإجابة الزئبقية يُدين تطبيقه في الحاضر .. ولا الرجوع عن الفكرة في الحاضر يُخطِّئ طرحها في الماضي.. ليس السيّد الإمام وحده.. هذا دأب الشخصية السياسية السودانية.. بل تاريخها وحاضرها حتى اليوم..! أما مُحاور برنامج (بلا حدود) فما زلت أذكره وهو يُضيِّق الخناق على الدكتور (بطرس غالي) بشأن بعض ما ورد في كتاب له عن اتفاقية (كامب ديفيد)، كان قد صدر في أعقابها، ثم بشأن ما يناقض ما ورد فيه من آرائه عن ذات الحدث/ القضية، في نهاية التسعينيات..! ببساطةٍ شديدةٍ، \"مريبة\"، أجاب الرجل بأنّه كان على خطأ، وأنّه بعد تطور فكره، قد غيّر وجهة نظره، و (اكتشف) أنّه كان على خطأ.. (بس) ..! كشأن معظم المواطنين، أمارس \"هواية\" مقارنة تصريحات المسئولين والسياسيين عندنا بمثيلاتها عند نظرائهم في مختلف الحكومات و الهيئات الدولية..! دعك من محاولات حسن التخلص والتمويه الفلسفي.. أصدقكم القول أنني كلما شاهدت مسئولاً أو سياسياً في أي بقعة من بقاع العالم يعتذر عن قول أو فعل، \"جاش صدري\"، ودعوت الله ألا يقبض روحي قبل أن أرى بأم عيني، وأسمع بأذني، مسئولاً أو سياسياً من ناسنا يعتذر ..! المهم أن يعتذر (السياسي) أو(المسئول) بشجاعة عن فعل صدر عنه، أو قول بدر منه، ساعة سوء تقييم أو نقص تقدير.. أو فكرة أثبتت الأيام خطأ طرحها في لحظة من لحظات نقص تمام البشر الخطائين ..! (أن نسمع كلمة \"آسف، كنت على خطأ\"، على لسان أحد الساسة في هذا البلد، قبل أن نُوارى الثرى) ..! نحن الذين اعتدنا على أنّ تصريحات ومواقف المسئولين عندنا مثل \"كرة الثلج\" التي تزيدها (المكابرة) تفاقماً فتكبر وتكبر .. وتكبر .. إلى أن تخرج عن حدود \"السيطرة\" ..! مازلت أذكر أيضاً تناول وسائل الإعلام نبأ (اعتذار) الرئيس الأمريكي (بارك أوباما) الذي أخمد نيران أول جدل عرقي منذ توليه الرئاسة، عندما وصف توقيف شرطي أبيض (ظلماً) لصديقه الأسود بالعمل الأحمق..! لم يعتذر (أوباما) لأنّه ملاك، بل اعتذر لأنّه يعلم أنّ الاعتذار هو أقصر الطرق للخروج من المآزق الأخلاقية، وللحفاظ على صورته ومكانته في نفوس الآخرين..! هذا النوع من المواقف أقرب إلى الذكاء منه إلى النزاهة.. على أن نبل الفكرة ومغزاها العميق يكمن في (مبدأ) تحرُّر قرارات القائد/السياسي من شوائب الاعتبارات الشخصية، نزولاً عند مصلحة الرعية/ الشعب، الأمر الذي يسمو بالقرار السياسي، و يثمِّن قيمته عالياً، حتى وإن كان مضمونه تنازلاً، أو اعتذاراً..! التيار