دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ونسات في البوفيه (2) (تذَكُّرات معاشي)

وساقنا الحديث إلى "العتاولة, الفُتُوَّات, وبالشاميّة "الأباضايات" ممن عاصرنا من التلامذة حسن دقيل "ود يوسف الخِدِر" والتجاني يونس (من آل الشريف الفضل) وغيرهم من الطِوال. ولكننا توقفنا وقفة خاصّة عند ذلك الولد الأخدر ذي الشعر السبيبي الناعم, خليفة ود عبدالله الريّح. كان نحيفا إلا أن كل شيء يتعلق به كان يبرُق. أينما وليت بصرك تراه, وإن مشى وراءك لا تراه لأنه "نبلته" تتربص بكل دابة غير أليفة أو داجنة, وهي لا تخطيء الهدف أبدا, وذخيرته صفائح من حديد يجلبها من فريق الحلب (أولاد عوض الله , والخالة نصرة المتخصصة في العلاج بالظار) إلا أنه لا يرميك ولكنه بعد أن يكتفي من ترويع الطير سيخرح من جيبه حديدةً مجوّفة مخروطيّة الشكل وفي قاعدتها يربط "لستكة, شريحة مطاطة" يقطعها في دكان العجلاتي (عمنا الصِّدِّيق حاج ابراهيم) ثم يصل أعلاها بمسمار طويلٍ سميك (7 لينيا) يلقطه من محل النّجّار محمد عطيّة, ويخرج علبة يأخد منها بأطراف اصبعيه مسحوق النار(الكبريت) و"برّاحة, بتمهل" يغرز المسمار في عقِب الحربة ويمطُّ اللستك وفي أثناء الونسة يفجأك ب "طاااخ".تتلفح بذراعيك وكفيك تغطي الراس والوجه وتهوى إلى الأرض ولما تفيق من الصرع مشحونا بالغضب يكون "حسّاس , لقبه لاحقاً" مرق بعيدا يبعث لك بضحكات استفزاز وهو يقف في وسط "الكوشة" مع عيال الشياطين, ولكي لا تلحق به يتوجب عليك أن تواجه الشوك وقطع الزجاج المبعثرة وكل صفيحة صدئة, ناهيك عن الضريسة والحسكنيت (حبوب نباتٍ برية محاطةٌ بشوكٍْ دقيقٍ طعناته لاذعة). وكان الخليفة (تيمنا بأخيه الأكبر الذي اختطفته المنون صبيّا) أصغر أخواته من فاطمة بت علي ود العصملي وأبوه عبدالله ود الريح من جهة السروراب, ولعلّ لهم علاقة بالجميعاب إذ كان من قرابتهم محمد ود الخليفة ابن الزهو بت الباشا (الزبير ود رحمة). ومن شقيقات الحسّاس الزهو, واسمها يدل على قرابة أو عشرة عميقة بالجميعاب. أما خاله بكر ود على ود العصملي فكان من عُقلاء أهل البلد وأبكرهم في التعليم الحديث. توفي والده في رحلة تجارية للجنوب وتركه وأخواته الأصغر من أمهم فاطمة بت صبير ورهطها في الجزيرة ممن استعرب من البُجا, وترك معهم أخوات وأخوات غير شقيقات هم أحمد "سمّوحة, كونه كان وسيما جُمَّالاً" وإدريس ورحمة الله وسليمان ونور البيان, ونور البيان لها ولدً صميم كريم اسمه عبدالماجد فذهب بي الظن إلى أنه أسمي على عبدالماجد جدي, ذلك لأن عبدالماجد وُلد بضاحية الدبكر لمّا كان كل أولئك النفر يسكنون على مقربة من جبال الكاركو تحسباً من انتقامات الخليفة ممن تخلف عن النصرة من أهل البحر وآثر "البِعد ولا الدار أم سٍعٍد", لكن اتضح لي مؤخرا ان ود العصملي له ولد اسمه عبدالماجد وعليه فإنه أسمي على عمه, ولكن هذا لا يعني أن عمه نفسح لم يكن أسمي على عبدالماجد. والغريب أن عمهم هذا لم يشاهد في البلد وكان أغلب الظن أنه مات في الغربة مثل ابيه, ثم اتضح أن ذلك الرجل لم يتغرب بعيدا (بمقاييس اليوم), كان في الفاشر واقترن هناك بإحدى بنات فريق أولاد الريف وولد منها بنتاً عاشت مع أخوالها زمنا ثم تزوجها رجلٌ من بيت سيماوي وانجبت له المُسَمّاة سليمة على عمتها هنا معنا في أبوزبد, وناس سيماوي كان منهم المسئول عن مرافقة المحمل وكسوة الكعبة في عهد السلطان علي دينار. لعلها ليست محض مصادفة أن يقترن ود ريفٍ (من بعيد) ببنت ريف من بعيد أيضا. وكنت رأيت أخوالا وأعماما لا ألتقى معهم إلا في النسب البعيد, ولكنها حال المغتربين يختزلون شجيرات العوائل لما يكونوا من الأقليات ويتمترسون بالمصاهرات, وله نظائر في زمننا هذا, فتجد السوداني في بلاد المهاجر يفَضِّل أن يزوِّج ابنته أو ابنه لأولاد " سجمان الحلة" في السودان, يفضله على الخواجة أو الآسيوي ويكاد يموت غيظا إذا كان من مُلّوَني ما وراء البحر. هذا سلوك أسمّيه سلوك "دا بسجمو ورمادو أحسن" وهو سلوك لا يقبله عقل حسابات المنطق المعاصر. التعقُّلُ المحضُ لا يجيزه, ولكنه يطفو إلا السطح كلما وُوجِهنا بفرحٍ أو مُصاب أو أي مشروعٌ مؤثر على الوجدان. ساعتها نضحي بالحب الذي نقًدِسُ و "نلعن أبو خاشُهْ" ونضحّي بالدين نفسه ونستجير بِ"الرجالة" والتقاليد!! لماذا؟ فإذا تأملّت في هذا السؤال المرهق فإنك ستنقادُ إلى البحث في كيفية عمل الدماغ البشري وكيفية تخزينه المعلومات واسترجاعها وما يصحب ذلك من معلومات تراكمت في ذهنية الناس عبر عصور طويلة وتم تغليفها جيّدا ومن ثم دفنها في ما يعرف باللاوعي, وكيف يتسنى لهذه المعلومات التسرب خلسةً للتدخل في ما يمليه الحضور الذهني العلني (الوعي) ومن ثم يبتديء تضاربٌ لا يزيده تأثير المحيط الاجتماعي إلا بللاً, وتُنتجُ التناقضات والازدواجيات. كأن المُخًّ تموج فيه صراعاتٌ يصرُّ فيها الداخلُ أولاً على كبح الواصل متأخرا, بمعنى طغيان المكون الاجتماعي والمخزون تاريخياً في اللاوعي, على مكوِّن الحضور الآني (الوعي) وهو بمثابة حاسبة منطقية صغيرة لا يؤخذ بنتائجها لأنّها ستُقهر وتُقْبَر من جانب المخزون الذي اتخذ مكانه في أضابير الذاكرة مُبكِّرا. ويبدو لي أن هذا التنازع بين القديم والجديد هو ما يفسر الاضطرابات (النفسجسمانية) التي تتبدّى عند اتخاذ القرارات الصعبة, وهي القرارات التي تضطر فيها للحكم لصالح القطيع المتجذر في نفسك عبر الثقافة الأولى وتعاليمها وبطريقة غير مباشرة عن طريق الموروث الخفيِّ إما في الذاكرة أو في الشفرة الجينية (أو فيهما معا). ومع تأكيدي بأن تفكّري هذا لا برهان علمي له إلا أن هناك بوارق يمكن أن تكون سندا أولياً ومن أمثلتها حكمة العجائز, هؤلاء تسقط ذواكرهم معظم المعلومات المكتسبة حديثا , وبرغم ذلك يؤهلهم الإجماع للترجيح بين أفكار المختلفين الأصغر عمرا.
روى لي أخي وصديقي محمد حسن أحمد مختار (بين أبوزبد والمتمة التي بقي فيها أكثرهم, وشجرة نسبهم ترتفع حتى جدهم المبارك ومنه انحدرت لهم بيوتات اشتهر فيها صالح عبدالقادر المبارك, من أبطال ثورة 1924).
قال محمد حسن: لما كنت أدرس في بورت سودان الثانوية سمعت بسفينة رست في الميناء كانت تحمل حيوانات نادرة روّضوها لعروض "السيرك". فخرجنا للمشاهدة وكنت لأول مرَة أشاهد الأسد, وازدحم المكان بالناس وبخيول "الكارو" وبدى الاسد كمن ضجر بالمشهد فزأر عاليا, وفجأة "جفلت" كل الحصين وجرّت العربات في كافة الاتجاهات, واستغرب لٍم وجِلت خيول بورتسودان من حيوانٍ لم ترَهُ من قبل, وكيف عرفت أنها تواجه خطراً, وهل كانت ستخاف لو نهق حمارٌ وحشيٌّ أو طقْطقَ دلفينٌ ؟ لا ندري, ولكن في كل الأحوال نحس بأن دراسة الغرائز الطبيعية قد تفتح الباب للعلماء المختصين لتقصي حقيقة اللاوعي وهل هو موجودٌ أم محضُ وهم, وإذا وٌجٍد فهل مكانه في المخ أم في الشفرة الوراثية, ولعل مسئولية ذلك ستبدأ عند أخصائي المخ وعلم الوراثة إلى جانب الأطباء المهتمين بعلاج الأطفال وكبار السّن.
معذرة, هذا استطرادٌ لا بد منه, لأنه من النقص بمكان أن تسرد ذكرياتك دون توضيح ما نبشت في دواخلك وما أثارت من تساؤلات وبعض أجابات غير تامات. ما الفائدة إذن؟ هذا ليس سردا قصصيا محضا, فالراوي أولى بالبدء في تحليل روايته بعيدا عن إصدار أحكام جُزافيّة, ولأن الذكريات لا تستثني كل شيء يجد الراوي نفسه أمام تحدي الخوض في كل شيء, بقدرِ ما لديه ولو "شِقِّ تمرة"". ثم وقفة قصيرة للتأمل في حديث التنشئة: (يولد المرءُ على الفطرة وأما أبواه فيهودانه أو ينصِرانه أو يُمجِّسانه). لعل التلقيم الأوّلي - في الدين وفي غير الدين - فيه استباق لما يمكن أن يُطْعَمَ الطفل أولا, لأن السابق سيكبت اللاحق في بعض المواقف فينتج تناقضٌ عمليٌّ كُتِبَ على الناس. لو صحَّ تأمّلي. قف.
وتتواصل اللقاءات مع الرواي ود العمدة في البوفيه. وواصلنا الحديث عن الخليفة, صيأد الطيور والأضب والطير بالنبل والطقِّ (بالحجارة) وبالشراك. لم يكن يصطاد ليأكل مثلنا, كان يستمتع بالقبض وتحسس الفريسة والتأمل في أحوالها ويتلذذ بفك أسرها في النهاية. ذاك ولد كأنه لا يعرف غير المرح والتنكيت العملي ولا ينازعه في ذلك إلا ابن خالي "بلّة" واسمه محمد أيضا,وسار عليه لقب "بلة" لأنه أيضا الوحيد من بين عدد من البنات ويختلفان في العمر فبلة كان امتهن التدريس إثر تخرجه في كتاب أبوزبد. وكان أوّل الصف غالبا ما يجد طريقه للوظيفة مباشرة وهؤلاء العباقرة كان يطلق عليهم اسم "العُرًفا, جمع عريف" لأنهم ينيبون عن المعلم في كل شيء في الملعب وفي الداخلية وفي ضبط المدرسة وجداول الحضور والغياب وحتى داخل الفصل تعطي لهم صلاحيات العقاب الخفيف في حال تأخر المعلم أو غيابه. وكانوا بدرسون تحت إشراف أساتذتهم بالأمس القريب. وبعد حين يبعثون لمدرسة العُرفاء في بخت الرضا, وفيها يعد المدرسون لتدريس المواد الأساسية أما طلاب المعهد فكانوا يُختارون من خريجي الوُسطيات ويتلقون تثقيفا عاليا في كل مجالات الحياة من مقدمات في الفلسفة وعلم النفس والفنون والأدب العربي والأجنبي وكانت مكتبتهم تضارع مكتبة الجامعة وأساتذتهم علماء أجانب وسودانيون طبقت شهرتهم الآفاق (عبدالله الطيب وأحمد الطيب, والمحامي أحمد زيم العابدين والأخوان سليقة والشاعر أحمد جاد كريم وإدريس جمّاع وودالشيخ وتنقو وعمران العاقب الذي حيّرت العقّاد ترجمته قصيدة من عيون الشعر الإنجليزي وهي قصيدة "الملاح القديم" للشاعر صمويل تايلور كوليريدج...وقائمة الأفذاذ تطول). ولعل كلمة "عريف" التي وفدت من مصر كانت استُلِفت من الجيش, ولست متأكدا. وفي أيامنا وأيام الخليفة حساس كان التلميذ صاحب الحظوة في تلقي صلاحيات عن المدرسين يُقال له "ألفا, والمعنى واضح لأن الألف في رأس الأبجدية.
نبا حظ بلّةُ فعمل في مدرسة مكي شنتوت بالأبيض ومن تلامذته فيها النجم شرحبيل أحمد, ولما نُقِل لكادوقلي كان من تلامذته الكنار زيدان إبراهيم, وأخرون كان أباؤهم يقدرون التعليم واصلوا دراساتهم حتي كلية غرجون ومنهم جمهرة من أولاد الشرتاي بخاري (صاحب السعاتة) وأولاد الشيخ عبدالهادي عبدالجبار, كلهم تميّزوا وكان القاضي التجاني عبدالهادي يتحسّر على مصير جاره وزميله بلة, قال لي: "والله كان شاطر شطارة, كان "بشًفِّفني, بِبَصِّصني. وأذكر محمد ود عبدالرحمن شيبون السياسي الشاعر المهذب الذي وافته المنية في حادثة تراجيدية غامضة في مدينة رفاعة (ولعل كِبار أبوزبد وبعض زملائه اليساريين يعلمون التفاصيل ولكنهم يسكتون, ويشيرون في أبوزبد بأصابع الاتهام لرفيقه في الحزب محمد أحمد البُشرى"شابرو" في تسبّب الحادثة والمساهمة في تسميم علاقاته بالآخرين تمهيدا لانهيار نفسي أو ما شابه مما يؤدي بصاحبه للانكفاء ثم الانطفاء).
أما الدكتور خالد الفيل فكان أبوه نجارا ممن وفدوا للبلد من البطاحين وله أخ نجارٌ أعرفه اسمه أحمد فاقع اللون شعره أجعد ناعم يتلفلف كما في أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) ولا يرتدي الزي البلدي أبدا ويخجلك هدوءه ورقته ولكنك ستلاحظ النجابة و"النجاضة, النضج" في بريق عينيه وكنا معجبين بكريمته الحَصَان النجيبة"الرضيّة" لم تكن في صفرة والديها ولم تُلَوّعْ بشلوخ مثل شلوخهم. ولا نعرف أين هم الآن, فالأقاليم صارت طاردة منذ منتصف الستينات ولما قَدِم وقت الجنجويد والنهب المسلّح وتكثيف الثروة للمحظيين في العواصم انكمش اليُسْرُ واشْرَأَّبَ العُسُر. لم أر خالداً في صِغَري ولكن عرفته من تغذية امي "ستنا بت العمدة", تغذيتي بالفضائل بذكر فُضلاء كان منهم أبي محمد "المعتصم بالله" ود عبدالماجد. كان أبي أحد معلمي خالد الفيل ذلك التلميذ الخلوق النجيب. قالت أن والده كان من أصحاب أبيها (أصحاب أبوها ديل ألِف؟) ولكن الرّجل مُعيِّلاً (محمول) ولا طاقة له بإرسال ولده الذكيَ ليتعلم في المدرسة الوُسطي في الأبيض ويريده يساعده في كسب العيش بصنعة النجارة. وفي اليوم الذي كان محددا لسفر التلاميذ للامتحان في الأبيض ذهب البارودي (لقب خلعه أل أبوزبد على الاستاذ محمد) إلى بيت ودّالفيل ليقنعه بالسماح لخالدٍ في الجلوس للامتحان الذي يتنافس فيه كل أبناء المديريّة (المحافظة) ليُختار منهم ثلاثون فقط للمرحلة التالية. " يا عمي ولدك دا ربنا رزقه الشطارة, فَلِيهْ نحرمو من العلم, المسألة دي فيها مساءلة يوم الحساب, "عملت شنو بما رزقناك", "نقول شنو, بعدين؟, ثم إنُو أنا متأكِّد أنّ ولدك دا سيُعْفى من مصاريف الدراسة وسيعطوه نثرية (إعانة) لأنو حيطلع البِرِنْجي (الأوّل) على كل الممتحنين. وأخيرا يوافق ود الفيل, وبمساعدة من أستاذه يصل الأبيض ويطلع الأول ويمشي الثانوية ويطلع الأوّل ويصل كليّة الطب ويتخرّج فيها الأول, ولكنه لا يعود من أم درمان التي سأقابله فيها لأول مرّة بعد اثنين وعشرين عاما من تاريخ دخوله المرحلة الوسطي, وهناك كثُرٌ ممن شدّ البارودي بأزرهم من التلاميذ, وسيأتي ذكر ذلك.
ونرجع لكبير العتاولة قليل اللحم كبير الرأس ود الريّح. في العام 1951.52 , عام الكسوف الكُليّ للشمس وهو نفس العام المعروف للمزارعين (وبخاصة القطن) بِسَنةْ خُمِّي (تخم فيها النساء المال بطيب خاطر من أزواجهن). ارتفع سعر الأقطان عالميا وجنى المزارعون مالا ما كانوا ليحلمون به, واشتروا ما يحتاجون وما لا يحتاجون وربما في اقتناء أشياء لا يعرفونها أبدا. حكي لي زميل الدراسة محمود بانقا الدبلوماسي الذي أحيل للصالح العام ( من جهة الحِويواء في الجزيزة) أن بعض الناس اشتروا ثلاجات تعمل بالجاز وبعد فترة أصبحوا يخزنون فيها الأمتعة القديمة. لا شك أن محمودا كان يمزح, فكم قضينا زمنا جميلا في مقاعد كلية الآداب تحت "اللبخ" نُطَرِّزُ الكلام ونستأنس بالنظر في أبهى البشر يتهادى نحو المكتبة بالرهيف والشفيف (والكاشف كمان).
في ذلك اليوم حضرنا "ليلة سمَر" اشتركت فيها الصفوف الأربعة ربما بأناشيد وأغاني لأننا لا نذكر إلا ذلك الإنجليزي الأحمر الذي يلبس الكاكي ويضع بين شفتيه الحمراويين "كدوسا, غليون" ويمشي أمامنا متعجرفا, وبه شخصيات باهتة نسيناها. إلا ذلك الولد الذى يغطّى اللون الأحمر جسده لأن حضوره غطّى على الكل بما فيهم معلّمينا. و " صَحِي, الدِّيكْ الفِصَيّحْ في بطْن أُمُّهْ بِصَيِّحْ" صدقه الخليفة (حسّاس).
عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.