أتاحت لنا ليلتنا تلك, التعرف على عالم مختلف, له قواعده، وتقاليده، وأعرافه، وأخلاقياته التي تحكم العلاقة بين أفراده. تعرفنا على شخصيات ما كنا نهتم بها إن نحن قابلناها في غير هذا المكان, بل ربما تأففنا منها وتجنبناها. ونحن في هذا مخطئون, فهم لا يختلفون عنا في شيء, لهم أحاسيسهم ومشاعرهم، وآمالهم وأحلامهم التي يصعب عليهم تحقيقها في ظل مجتمع رافض لهم. بأسف وأسى وحزن، يلومون هذا المجتمع الذي لم يغفر لهم زلتهم الأولى, فلفظهم, ولا سبيل أمامهم للحياة، سوى السير في هذه الدروب الشائكة الوعرة. - أعرفكم بالجماعة عشان تعملو حسابكم منهم في المستقبل هكذا بدأ الزعيم حديثه، وهو يرسل ضحكة خفيفة، أقرب إلى الهمهمة, ثم مواصلا: - بالمناسبة ما تخافو منهم , انتو بقيتو زملاء زنزانة ضحكوا وضحكنا0 أشار الزعيم إلى أحدهم, شاب طويل القامة, نحيل نوعا ما, لا يخلو من وسامة, يغلفها شيء من حزن دفين: سعيد, النشال, وشهرته الشبح, يجيد قص الجيوب بالموسى التي يعرف كيف يخفيها جيدا بين أصابعه, في ثانية وهو يمر بجوار الضحية، تكون الغنيمة بين يديه. ملعب مهنته، التجمعات، ومواقف المواصلات، و داخل الحافلات. كان يحلم وهو صغير، أن يتعلم ويتوظف ويكوّن أسرة, إلا أن خطأه الأول في غياب الرعاية الأسرية, أسلمه للإصلاحيات, فتخرج منها نشالاً محترفا, تستضيفه الزنازين والسجون كل حين وآخر, يتمنى أن يترك هذه المهنة من كل قلبه, ويلتحق بمهنة شريفة. - لكن مين بيقبل يشغل واحد رد سجون ؟ قالها سعيد بحرقة وأسى، وهو ينفث دخان سيجارته بقوة وصوت مسموع. ربت الزعيم على كتف سعيد يواسيه, واستمر في حديثه: وهذا أحمد, محترف كسر منزلي وشهرته الأستاذ. - يعني زميلكم قالها أحمد مازحاً، وهو يشير نحونا, ضحكنا، أعجبت المزحة الزعيم فشاركنا الضحك, ثم واصل حديثه: الأستاذ, مخطط بارع, لا يدخل منزلاً قبل أن يعاينه مراراً وتكراراً، يدرس بهدوء تحركات أصحابه, متى يتواجدون، ومتى ينامون, وكم عددهم, ماهي نوعية أبواب الغرف, والنوافذ, خشب أم حديد, هل يغلقونها, متى يقتحم البيت, ليلا أم نهارا, وله في إيجاد المعلومات الدقيقة، عدة وسائط يستقى منها ما يفيده, كالشغالات, والأطفال الصغار. ولكل منهم أسلوب خاص لاستمالته, أحياناً، حين تستعصى عليه معلومة ما، يلجأ إلى الحيلة، فيتقمص شخصية ملاحظ صحة، أو قارئ عدادات كهرباء، أو محصل عوائد، وهكذا. يدخل ويخرج ويلتقط بعين فاحصة كل التفاصيل التي يريدها, تنجح خططه كثيراً، وتفشل أحيانا, فيستضيفه السجن ردحاً من الزمان. اعتذر لنا الزعيم إن هو أطال في الحديث، وحرمنا من أخذ قسط من النوم, لكننا طلبنا منه الاستمرار، إذ أننا لا نرغب في الرقاد. - طيب, شايفين الجبل المكوم داك وأشار إلى ركن الزنزانة, بالفعل جبل من اللحم، تعلوه رأس ضخمة وعينان واسعتان، تدوران في محجريهما بنظرات تدل على سذاجة صاحبهما وبلاهته. هذا حسن, وشهرته (حسن فتوة), كما ترون,كتلة من العضلات, وعقل لا يحسن التدبير, بلدوزر بشري, كل مشكلة حلها، في اعتقاده، يتم بالقوة وحدها مهما صغُرت. حاول أحد مدربي الملاكمة الاستفادة منه، وتأهيله ليصبح ملاكماً محترفاً, إلا أنه بعد زمن قصير، نفض يده منه, إذ رأى أن صخرة صماء، يمكنها أن تكون ذات فائدة في هذا المجال. يلتقط ( حسن فتوة) رزقه من قطع الطريق ليلاً على المخمورين، ورواد بيوت الليل, في بعض المرّات، تستخدمه إحدى بنات الليل لإبعاد المشاكسين، والمشاغبين، نظير عشاء وزجاجة خمر. لا أسرة له ولا أقارب, مقطوع من شجرة. أحياناً، يستعين به احمد ( ناضورجيا)، في المهام الليلية العصيّة، ليحمي ظهره ساعة الهروب. وأحياناً، حين تضيق به الحال، يفتعل مشاجرة ما ليدخل السجن, ملاذه ومأواه. -وهذا إسماعيل النصاب, أشار الزعيم إلى رجل في أواسط العمر، طويل، نحيف.تلوح من عينيه نظرة اعتداد وثقة بالنفس. - شهرته ( الحاوي ), يوم في المسجد، ويومان في الخمارة, حسب مقتضيات الاحتيال. يكره العنف, حديثه ناعم, يستطيع بكل اقتدار، إقناعك بالشخصية التي يتقمصها, فمرة هو شيخ بلحية ومسبحة، ترافقها همهمات يعتقدها البعض أذكارا, وهي في حقيقتها شتائم مقذعة, فيطلبون بركته ويدعمون طلبهم بحفنة من المال. وأحيانا (أفندي )، بالبدلة وربطة العنق وكتاب في اليد, يتصيد الموظفات العانسات, المتعطشات للحب، يبيع لهن الوهم, فيجزلن له العطاء, ثم حين يقضي وطره, ينفد بجلده, وهو موقن تماماً بأنهن لن يجرؤن على الإبلاغ عنه، تجنبا للفضيحة. حتى إذا ما صادفته إحداهن بالطريق, أشاحت بوجهها عنه, وكأنها لا تعرفه. ملعبه المفضل, طاولة القمار, فهو فتى ( الوكالة ) الأول, يجيد ترتيب الورق ورصفه، وهو يحدق في وجوه اللاعبين, يشغلهم بنكاته وطرائفه، فلا يلحظون ما يفعله0 يدخل السجن لا بسبب احتياله, بل بسبب تماديه أحياناً في شرب الخمر حين يخرج من طاولة القمار بغنيمة دسمة0 7 - أها يا زعيم, ما فضل غيرك, من قبيل واقع فينا تشريح, تقول ولاّ نقول ؟؟. ابتسم الجميع بما فيهم نحن، وإسماعيل الحاوي يخاطب الزعيم، الذي طافت بوجهه غلالة من أسى. أطرق برأسه واستغرق في تفكير عميق، جعل الصمت يلف المكان بوشاح من الترقب, ثم بدأ الزعيم يتحدث بصوت كأنه آت من غور سحيق: - في لحظة غضب أعمى, سلكت درباً ما كان في حسباني. منذ صغري وأنا أصارع الدنيا, تصرعني مرات، وأغلبها أحياناً، حتى توصلنا لاتفاق صامت بأن تدعني أعيش حياتي دون خوف أو وجل من غدرها. عملي في السوق أتاح لي رزقا، بالرغم من قلته، إلا أنه كان يكفيني أنا وخليلتي، التي أفردت لها داراً وحياة كريمة, ماكان يهمني أن أعرف إن كانت تحبني أم لا، فهي تبدو راضية بالعيش معي, وهذا يكفي, وما كنت أظن أن الدنيا ستخرق اتفاقها معي, وتضعني أمام اختبار عصف بكياني وكاد يورثني الجنون. اكتشفت بالصدفة المحضة، أن خليلتي تخونني أثناء غيابي, حدث ذلك حين عدت يوماً، على غير عادتي، إلى البيت عند الضحى، لأني نسيت شيئاً يخص عملي. طرقت الباب, مرة وأخرى, لم تفتح, ظننتها نائمة, كدت أعود أدراجي لولا أن طرق سمعي صوت رجل يتحدث بصوت خفيض، وصوتها وهي تطلب منه الانتظار لترى من الطارق, حين فَتَحَت الباب, صَرَخَت فزعاً، وصرختُ ألما, لا أدري بعدها ما حدث, بدأ الأمر وكأني أشاهد شخصاً آخر، يشبهني، يخرج سكيناً من ذراعه، ثم يهوي بها على الأجساد التي أمامه، فيتفجر الدم غزيرا, أسمع صرخات، وصيحات، كأنها آتية من مكان بعيد, وأذرع تلتف حولي من الخلف, وعرق وغبار وأنفاس لاهثة, نهايتو, قتلتها ورفيقها, ورأف القاضي بحالي، فخصم من عمري عشر سنوات. خرجت من السجن, حاولت العودة إلى عملي السابق, لكن هيهات, الكل تبرأ مني, ومن أشفق علي, رماني بحفنة من المال, لا تُسمن ولا تُغنى من جوع، على ألا أعود إليه مجددا. وما عاد لي سوى مخرج وحيد، السرقة والنهب, فتزعمت عصابة من رد السجون أمثالي. في غبش الفجر، خيل إلي أني أرى دمعة تنزلق باستحياء على خد الزعيم المطرق برأسه, إلا أنه لم يتركها تتمادى فمسحها, وتسربلنا بالصمت. خشخشة المفاتيح، وصوت المفتاح بقفل الزنزانة، أعاد لنا شيئاً من الوعي، وكسر حدة الصمت. - انت وانت - أشار الجندي نحوي وزميلي: - تعالو معاي. تحري وقفنا وخدر يسري في أرجلنا من طول جلوس, وقف الجميع ونحن نتجه نحو الباب, التفتنا ناحية زملاء الليل, وصافحناهم مودعين. - موضوعكم بسيط, إفراج إن شاء الله, شدّو حيلكم قالها الزعيم وهو يربت على ظهورنا, خرجنا، والجندي خلفنا، يدفعنا إلى حيث يريد0 يتبع..... [email protected]