(1) في نهاية الثمانينات من القرن الماضي اطاح الدكتور حسن الترابي عالم الدستور بالنظام الدستوري الديمقراطي ، وجاء الي عالم الوجود انقلاب الانقاذ ، السمعة الحسنة واللقب العلمي الانيق والتاريخ الذي يسجل الاحداث بلا نسيان ، كل هذه الاشياء لم تكن حاضرة في عقل الدكتور الترابي ، مصير الوطن وحده كان الحاضر الاكبر عنده من كل هذه الاشياء ، وقد يقول قائل حتي الحريات لم يكن لها نصيب ونقول حتي الحريات لم يكن لها نصيب في عقله يومها ، فالوطن ومتلازمة الخوف من الفوضي والمجهول كان عنده حاضراً اكبر من الحريات يومها ، مثلما ان قيمة الحياة اكبر من كل الاشياء ، وقد يدور جدل كثيف في هذه النقطة ولكن علماء الاصول لهم القول الحسم حين يقولون ان درء المفاسد مقدم علي جلب المصالح . (2) في نهاية التسعينات من القرن الماضي وقف الدكتور الترابي امام الحريات يصد المد المتصاعد لحزبه وقياداته نحو الطغيان ، يومها كانت قيمة الحرية هي الحاضر الاكبر في عقل الشيخ الترابي ، و علي اثر ذلك فارق وفاصل حزبه العتيق وتداعت الاشياء ودخل الي السجن حبيساً لسنوات طويلة ، ضحي الشيخ الترابي بمشروع حركته والإمساك بمفاصل السلطة والقيادة ، لم ترتعش اياديه و اصوات الشماتة تعلو وترتفع بفشل مشروعه وانهيار حركته التي وقف عليها يشيد بنيانها لسنوات طويلة وسهر عليها الليالي والايام والشهور ،وقدمت الحركة في سبيل تمكين مشروعها الوطني الانفس الطيبة والطاهرة . (3) في العقد الاول من الالفية الثانية اندلقت علي المشهد السياسي مياه باردة والشيخ الترابي بتواضعه وتسامحه يدخل الي قاعة الصداقة ويستجيب لدعوة الحوار الوطني من ابنائه الذين فارقهم قبل سنوات ، فالوطن في هذه المرحلة يكاد يصل الي حالة الفوضى والانزلاق نحو المجهول ، لم يمنعه خلافه الكبير حول الاصول مع ابنائه ، ولم يمنعه سجنه الذي تتطاول سنوات ، ولم تمنعه المعاملة القاسية وفئران السجن تتغذي علي اصابع قديمه ، ولم تمنعه اصوات الشماتة ودعوات الخيانة من خصومه المتربصين ، من ان يستجيب لنداء الوطن المجروح . (4) اذا تمعنت سيدي القارئ في كل هذه الاحداث ستجد ان الوطن كان الحاضر الاكبر في العقل السياسي للشيخ الترابي ، علي هذه الاصول انقلب وسامح وحاور وجادل وجاهد ، الوطن والخوف من الفوضى كان المحرك الاول لانقلاب الشيخ الترابي علي المسار الديمقراطي ، الحريات واصلها في الدين وضرورتها في واقع معافى كان المحرك لخروج الشيخ الترابي من السلطة التي ضحي من اجلها بالحرية ، الوطن والخوف من المجهول والانزلاق نحو الفوضى كان المحرك لاستجابة الشيخ الترابي للحوار الوطني . (5) هذه الاحداث التاريخية اذا نظرنا اليه جيداً بلا شك انها ترسم معالم المسير القادم لاي المواقع التي يقف عندها قطار المؤتمر الشعبي ، وإذا ارادت قيادة الشعبي ان تتخذ منهجاً للتعامل مع الاوضاع الراهنة فليس عليها سوي ان تضع هذه المشاهد في عقلها وحينها تتولد الرؤى الاستراتيجية وفق قراءات موضوعية للواقع الماثل والمشهود . (6) اذا فكر الشعبي بعقله الاستراتيجي في مستقبل الحوار الوطني ، سيكون الامر سهلاً ان يضع الشعبي قلمه علي منضدة الحوار ويعترف ان المسار الذي سار عليه لم يصل الي نهاياته السعيدة وهكذا سنة الحياة وفعلها الشيخ الترابي من قبل ، وسيكون الامر في غاية السهولة حين يضع الشعبي ضرورة الحريات وازمات الوطن في الميزان ، فعلها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وخسر الرهان حين حمل غصن الزيتون بيديه والطرف الاخر يحمل البندقية وانتهي به المقام حبيساً في رام الله وشهيداً مسموماً في مستشفي باريسي ، وفعلها كذلك نيلسون مانديلا حمل غصن الزيتون علي يديه وخصمه يرفع رايات العنصرية والكراهية وكسب الرهان وانتهي به المقام زعيماً افريقياً يكاد يبلغ درجة القداسة في عالم السياسية الذي لا يعرف القداسة . [email protected]