ما أن وصلنا بالسلامة إلى الخرطوم ليلة الخميس ليلة (العاصفة) والمطرة تلك، إلا وتذكرت طرفة من كان محشوراً في جوف دفار أيام كانت الدفارات هي انشط وسائل النقل في العاصمة ولم يكن بمقدور ذلك الراكب الذي يجلس بين الزحام الوقوف لمراقبة المحطة التي يقصدها في رحلة الدفار إلى الحاج يوسف فظل يكرر السؤال للكمساري في كل مرة (وصلنا حلة كوكو وللا لسة) والكمساري يجيب عليه بصبر (لا لسة) وحين مل الكمساري من تكرار هذا السؤال عليه رد على صاحبنا بغضب وانفعال (حلة كوكو دي بشموها يا خينا ما بشوفوها).. وكذلك رائحة المعاناة في الخرطوم تكاد تكون أبرز الملامح الأولية التي يمكنك ملاحظتها لتعرف أنك وصلت الى الخرطوم فكان الملمح الأبرز لما فعلته تلك الأمطار بالعاصمة ليلتها ينتظرني تحت آخر عتبة نزول من السلم الملحق بالطائرة حيث نزلنا في بركة مياه على أرضية المطار تحت الطائرة مباشرة فقطع جميع المسافرين المسافة بين الطائرة وبص المطار (خايجين)..!! هذه ليست نكتة بل هي الحقيقة أن الطائرة كانت قد استقرت في بركة مياه داخل المطار في أكثر مشاهد الأزمة لؤماً. نعم أزمات انهيار البنية التحتية في خرطوم اليوم هي أزمات أصفها بأنها أزمات لئيمة حقاً كونها تعبر عن نفسها بهذا المستوى. ثم وصلت الحقائب إلى سير المطار بعد أن تشبعت بمياه الأمطار بما يكفي (لتبويظ) أي جهاز إلكتروني داخل حقائب المسافرين وغيرها من الأشياء الأخرى.. ثم اكتملت مظاهر لؤم المعاناة وبجاحتها حين مررت مع من حضر لاستقبالي بنقطة تحصيل رسوم موقف المطار الداخلي حيث كانت هناك فرصة لإقامة حفل فساد في تلك الليلة العاصفة تحت وسادة الضمائر.. قدم صديقي مبلغاً من المال لموظف التحصيل عند بوابة الخروج دون تقديم تذكرة الموقف التي توضح زمن الوقوف فاستلم الموظف المبلغ وسأل صديقي كم مكثت داخل الموقف لأن ماكينة التذاكر طبعاً معطلة ونحن نحصل الرسوم (بالنية) فدار حوار قصير (خمش) بعده الموظف عشرة جنيهات تقريباً (بالنية) ثم ابتسم ابتسامة خضراء تشير لنا بالمرور ليأتي دور السيارة التي تلينا.. وهكذا.. الوقوف بالنية والدفع بالنية وبدون وصل استلام طبعا يضمن وصول المبلغ لخزانة الجهة المعنية بالرسوم. بعدها كان كل شيء شاهدته في رحلة قصيرة ولئيمة من المطار الى منزل الأسرة بمدينة الصحافة بالنية.. أفواج من البشر قادمة من الخرطوم في ذلك المساء مشياً على الاقدام وخواجة في الطين ووقيع في الحفر اللئيمة أيضاً لعدم وجود مواصلات.. كل شيء بالنية في عاصمة الوالي عبد الرحيم محمد حسين.. والي النوايا الحسنة .. حوادث المرور وصعقات الكهرباء وكل ذلك الغرق الذي يحمل أكبر لافتة في خرطوم هذه الأيام.. لأن الولاية تحكمها حكومة على ما يبدو أنها تراهن وبقوة على ظاهرة العمل (بالنية) . شوكة كرامة لا تنازل عن حلايب وشلاتين. اليوم التالي