« التاريخ عبارة عن كابوس , أحاول أن استيقظ منه» ( جيمس جويس, ألوسيس) « العبقرية.. لا تعني أكثر من القدرة على إدراك الأشياء العادية بطريقة مختلفة وغير معهودة» ( وليم جيمس الفيلسوف الأمريكي الذي سك مصطلح تيار الوعي stream of consciousness) من ملامح الكتابة العالمية الجديدة عموماً, خاصة في تجليها, ما بعد الحداثوى, ميلها المستمر أن تخرج من التصنيف «الجانروي» التقليدي المستقر, مفضلة المنطقة الحرة العابرة للتجنيس. الكتابة السودانية الجديدة, أخذت هذا المنحى , بشكل واضح, تحديداً منذ التسعينات , وتعاظم, هذا الاتجاه, خلال العقد الأخير من هذا القرن الجديد ( كتابات عبد الغني كرم الله, مثلاً, تعد تجسيداً حياً لهذا الاتجاه العابر «للجانرا», وهو مما صار يكسبها سحراً طويلاً, وتوهجاً خاصاً ). « .. كان النبض الأول في الغابات» (النور عثمان أبكر) صلاة الجسد , لعبد العزيز بركة ساكن( مجلة نوافذ مدنية, كلية شرق النيل, 2011), نص يشتغل في هذا الأفق الجديد بارزاً مؤهلاته كمواطن بعد- جانروي ( post-genre). هذا الانفكاك التصنيفي نفسه, هو الذي أتاح للنص أن يؤسس قوامه كله على أرضية من «التشظي» المستمر. وهي أرضية تُنشيء نفسها منذ مستفتح النص ( أبناؤنا المشردون على جسدك الحار .. أنت مسجاة هناك بكامل إرادة الوقت والقهوة.. بكامل صراخ العشيبات المصطفاة في سبيل النشوة).. وتستمر حتى الجملة الأخيرة ( يا هذه.. يا مجدلية الروح.. يا مريمي ومريمي الأخرى وفاطمتي). وإذا كانت الأرضية هي التشظي , فان الدعامات والكونكريت تنهضان على كتف المونولوج المشفّر. واللافت هنا, أن نص (صلاة الجسد) يرفض نظام المدركات الراسخ , باعتباره زائفاً ومركباً وسخيفاً , وفي الآن عينه, ينشغل بتركيب مفردات عالمه الخاص على أنقاض هذا العالم المركّب القديم الزائف, وليس يبالي حتى أن يجعله زائفاً هو الآخر, وإن على طريقته الخاصة. تشكل هذه المفردات « الإطار التحرري» للذات المبدعة. انه عالمه الخاص , هو الذي يصنعه ويدير معناه ويؤسس شفراته ونظام علامته البديل ! ومن ذلك رفض المتكلم داخل النص , للقراءة, شاهراً لاءاته العشر, و تواقاً لعالمٍ جديد واهجٍ و طازج وملتهب, ومبلوطٍ بكل الحرارات البكر والشهقات البتول ( يريد عالماً طازجاً- إن شئت - كرائحة الطماطم زمان , قبل أن تهجم عليها الكيماويات)! وبالقدر الذي تنجح فيه هذه الانحرافات الإدراكية , في تأسيس عالم بطل النص الإدراكي الجديد, فانه ينجح أيضاً في تأسيس بنيته الإيقاعية الخاصة «المتناوتة» معها. ومن سمات إيقاع (صلاة الجسد) أنه يستدعى جميع الحواس جملة واحدة. (صلاة الجسد) نص جيد وينوء بإمكان هائل, وأرى أن يطوره صاحبه إلى كتاب كامل وأن يتبع فيه - إلى جانب انحرافات الدلالة والنظام- طريقة «الانحراف الترقيمي» punctuation deviation ? تلك الطريقة التي يجيدها , سودانياً, كمال الجزولي في مقالاته السياسية-الاجتماعية. وحين نثبت للنص هذا الإمكان الكبير وهذا الأفق الإندياحي المتجدد , فإننا لا نغفل ضرورة الانتباه لجملة من الأخطاء الصرفية في هذا النص الصغير( ليست ضمن نسيج الانحرافات ), والتي أوردناه مصحّحة فيما استنصصناه هنا من اقتباسات في عرض هذه المقاربة. إذ لا يليق بكاتب يملك هذه القدرات العالية في الرؤية والخيال والتشغيل الدرامي وملكة التمثيل الإدراكي على أفق مرتفع, أن تقعد به مثل هذه النواقص والمثلبات, و التي ربما صدرت عن إهمال وتعجل , فالكتابة الجيدة تظل دائماً هي «إعادة كتابة», هي اشتغال ممرحل ومستديم أكثر من كونها منتجاً نهائياً. (صلاة الجسد) نص لا تصنيف له في أي إطار «جانروي» قديم.. نص يؤسس هويته على تفكيك النظام ? نظام الوعي الجاهز الرتيب والإدراك الزائف- مقروءاً من وجهة نظر الصوت الرئيس في النص- والذي يبحث عن نظام وعي بديل طازج وحار وفائح البدايات. ويقوده هذا المسعى النبيل, في آخر الظهيرة, إلى إيقاع يستوي على محور يرتج من التشظي المتواصل. الراي العام