ظلت اذاعة ال «بي. بي. سي» العربية أو هيئة الاذاعة البريطانية تحتل حيزاً مقدراً في الوجدان السياسي والمعرفي للمستمع السوداني منذ عقود طوال مضت.. ربما منذ بداية الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه الاذاعة بالنسبة لاهل السودان مثل جهينة الخبر اليقين لعدة أسباب.. أولها أنها هيئة مستقلة عن الحكومة البريطانية تُمول من دافع الضرائب البريطانى، وثانيها انها تعكس الرأي والرأي الآخر بجرعات اعلامية تكاد تكون متساوية، فهي تحرّض المستمع على إعمال عقله في كافة القضايا. والمستمع السوداني يدين بفضل كبير لهذه الاذاعة في تراكم وعيه السياسي والاجتماعي والمعرفي، فالسودانيون يمثلون أكبر شريحة ملتزمة بهذه الإذاعة، ولا أبالغ إن قلت إن معظم الشعوب العربية في شطآن الخليج والمغرب العربي لم تواظب على هذه الاذاعة الا في حقبة التسعينيات خلال حروب الخليج الثلاث. ولا ينحصر الكسب المعرفي لهذه الاذاعة في مضمار السياسة وحدها، بل يتجاوزها الى الادب وضروب الفنون المختلفة والثقافة العامة. وظلت ال «بي. بي. سي» رافداً أساسياً للمعرفة في السودان، ليس لسكان المدن وحدهم بل عرفها أجدادنا وآباؤنا في البوادي والارياف النائية منذ عقود طوال، وتلك أصقاع لم تصلها الاذاعة السودانية «هنا امدرمان» الا قبل سنوات قليلة. وتصادق وجدان المستمع السوداني طوال هذه السنوات من الأُلفة الاذاعية مع اصوات مثقفة ومنتخبة من ابناء الوطن العربي امثال حسن الكرمي وجميل عاذر وماجد سرحان وعمر يمق ومديحة المدفعي، إلى جانب أجيال مجيدة مبدعة من ابناء السودان امثال الطيب صالح ومحمد خير البدوي وصلاح أحمد وأيوب صديق وإسماعيل طه وغيرهم. إن الحيثيات التي أوردتها السلطات المختصة وهي توقف بث ال «بي. بي. سي» عبر موجات ال «أف .ام» في ولاية الخرطوم وغيرها من مدن السودان تظل غير مقنعة للمستمع السوداني، فأياً كانت المخالفات الاجرائية والخروقات التي ارتكبتها الجهات الإدارية لهذه الإذاعة في السودان، فإن هذه المخالفات لا ترقى الى هذا القرار الذي صادر واحداً من مواعين الوعي والثقافة لدى المستمع السوداني. وفي زمن العولمة هذا أصبح الأثير الكوني مزدحماً حتى التخمة بوسائط الإعلام المختلفة من فضائيات تلفزيونية وإذاعات ومواقع الكترونية.. منها الصديق والمعادي والمتزن.. ومحاربة هذا السيل الإعلامي الفضائي الجارف أشبه بمحاربة دون كيشوت لطواحين الهواء..!!