ما فتئت عبارة أن السودان سلة غذاء العالم تتردد على الآذان منذ سحيق الزمان كلما جرى ذكر الزراعة بإفريقيا والوطن العربي، بيد أن واقع الحال الزراعي بالسودان وبالأدلة والبرهان ينأى عن تلكم المقولة أميالا وأميالاً، رغم الجهود المتتالية التي ظلت تبذلها الحكومة، فيسلم كل جهد خيبته وفشله في انتشال الزراعة إلى لاحقه، ولا نذهب بعيدا في سفر التأريخ، ولنبدأ بالبرنامج الثلاثي للاقتصاد السوداني مطلع التسعينيات الذي اصبح عشريا وربع قرني، ومن ثم جاءت النفرة الزراعية بلونيها الأخضر والأبيض، ولم يجن منها الناس شيئا، ليكون آخر المحاولات لانتشال الزراعة من وهدتها مشروع النهضة الزراعية الذي بذلت له الحكومة من الدفع السياسي والتمويلي ما لم تتعهد به أيا من سابقيه من المشروعات، وتبادر إلى الأذهان أن الخلاص للزراعة وأهلها لا محالة قادم على يدي البرنامج التنفيذي للنهضة الزراعية، لتكبر معه التطلعات وتزدهر الأماني في النفوس. غير أن النتائج والمحصلات النهائية للنهضة الزراعية فيما سلف من سنين كانت مخيبة للآمال بحسب رأي المزارعين والمختصين في المجال الزراعي، حيث أنها لا تتناسب مع القدر الوافر من الأموال التي بسطت للقائمين على أمرها، بغية تنفيذ ما يسر العين ويرضي التطلعات، ففي خلال السنوات الثلاث التي لم تنته بعد منذ انطلاق قطار النهضة الزراعية، فقد خصصت الحكومة ما يناهز الخمسة مليارات من الجنيهات وتحديدا 4.8 مليار جنيه بحسب تصريحات الأمين العام للنهضة الزراعية لبعض أجهزة الإعلام أخيراً، التي أقرَّ فيها بصعوبة تحقيق النهضة الزراعية المنشودة في ظل أربعة مواسم، بل أوضح أنها تحتاج إلى عشر سنوات أخرى حسوما، فلكأني به يقول على جموع المواطنين الانتظار إلى ذلكم الحين في بلد يملك من الأراضي الصالحة والبكر ما لم ولن يتوفر لرصفائه بحسب رأي الكثيرين من المختصين والمزارعين، علاوة على امتلاكه لمشاريع زراعية رائدة وواعدة ترنحت عجلة الإنتاج بها لجملة مسوغات معلومة يمكن تلافيها ومعالجة آثارها بقليل من التخطيط السليم واتباع المنهج القويم، ولم يقف الأمين العام للنهضة الزراعية في إفاداته الصحفية عند هذا الحد، بل أقرَّ أيضا بأن النهضة الزراعية في مواسم إنتاجها السابقة لم تقوَ على توفير الأمن الغذائي بالبلاد، وعجزت عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الذي حسب إقراره أن فاتورة استيراده سحبت كل عائدات النفط، مما دفع وزارة المالية لتمويل العروة الشتوية المقبلة بغية الإسهام في تحقيق هذه الغاية. وأضاف أن استيراد القمح يكلف الخزينة العام للدولة ما يعادل 700 مليون دولار، في ظل تزايد الاستهلاك المحلي لمنتج القمح الذي ينتج منه محليا فقط 16% من حاجة البلاد، ولم يتوان الأمين العام للنهضة الزراعية عبد الجبار حسين في الإقرار بتراجع عجلة نسبة تنفيذ البرامج التي تبنتها النهضة الزراعية من 89% في عام 2008م إلى 29% في عام 2009م، وقال حسين إن التحول في الزراعة لا يتم في أربع سنوات وانما يحتاج إلى عشر سنوات أخريات. ووصف ما مضى من عمر النهضة الزراعية التي تم تخصيص 4.8 مليار جنيه لإنجاز مشاريعها بأنها لا تعدو كونها «تمرينا» لتحقيق النهضة الزراعية، حيث أوضح أن السنوات الماضية من عمر النهضة تم فيها تشخيص الأدواء التي يعاني منها القطاع الزراعي، وحُدد على ضوء التشخيص العلاج الذي سيبدأ تنفيذه عبر خطة عشرية جديدة. بيد أن جل المتابعين لمسيرة النهضة الزراعية منذ انطلاق قطارها، يرون أن النهضة الزراعية لم تؤت الثمار المرجوة منها بعد. ولم يقف هذا الاعتراف عند المتابعين بل جاء على لسان حادي ركبها ومهندس رقائق برنامجها التنفيذي عبد الجبار حسين، حيث أوضح عدم رضائه عن نتائج الموسم الأول في انتاجية الذرة، حيث قال في جلسة مراجعة وكشف حساب بجامعة الجزيرة في ندوة على هامش طواف للأمانة العامة للنهضة الزراعية على مشروعي الجزيرة والرهد الزراعيين آنذاك، قال في حسرة إنهم كانوا يخططون لإنتاج أكثر من سبعة ملايين طن من الذرة، غير أن جملة إنتاجها لم تتجاوز الأربعة ملايين طن إلا بقليل، ووجد العذر لتدني الإنتاج عن السقف المتطلع إليه، باعتبار أن الموسم المعني كان بمثابة عام للأساس للنهضة الزراعية، لتدور عجلة الأيام وتأتي نتائج زراعة الذرة في الموسم التالي «العام الثاني» للنهضة الزراعية مخيبة للآمال، حيث أوضح عبد الجبار نفسه في معرض دفعه جريرة الفجوة الغذائية عن البلاد بأن إنتاج الذرة للموسم الثاني للنهضة الزراعية يحوم حول المليوني طن، الأمر الذي يوضح بجلاء العجلة التناقصية التي تسير وفقها إنتاجية الذرة المحصول الرئيسي لغالب أهل السودان، هذا بجانب اعترافه اللاحق بأن ما ينتج من القمح بالداخل لا يتجاوز ال 16% من حجم استهلاك الشعب، لتطفر إلى الأذهان جملة تساؤلات حرى وأسئلة حائرة عن جدوى النهضة الزراعية إذا كانت تبذل وتصرف في تمارين تحقيق النهضة الزراعية ما يناهز الخمسة مليارات جنيه، وتساءل بعض المختصين إذا كان تمرين النهضة الزراعية يكلف خمسة مليارات جنيه فكم يا ترى تكون تكلفة المباراة الكلية لها، الأمر الذي دعا بعضهم للمطالبة والدعوة للعدول عن الاستراتيجية الكلية للدولة في تبني استراتيجية أخرى تقوم على النهوض بالقطاع الصناعي عوضا عن الزراعي، مع ضرورة التركيز على بعض المحصولات التي تشكل أساسا للصناعات التحويلية، حيث أوضحوا أن النهضة الزراعية لم تساهم في زيادة انتاج وإنتاجية المحاصيل الزراعية، ولم يكن لها دور في تشغيل الأيدي العاملة عن طريق خلق فرص للعطالى، كما لم يكن لها أثر في زيادة حجم الصادرات الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي، وبالتالي لم تحقق التنمية الاقتصادية المحلية والكلية، ولم يكن لها باع في نقل وتطوير القطاع الزراعي عن طريق نقل التقانات الحديثة وتبادل الخبرات، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل أن بعضاً منهم وصف ما يجري بالنهضة الزراعية بافتقاره إلى الشفافية وأسس المحاسبية. ورأى البروفيسور حسن سليمان ابراهيم، تخصيص نصف ما رُصد للنهضة الزراعية من تمويل ليكون بمثابة تمرين لتحقيق الأهداف المرجوة منها، وقال إن ما يحدث بالنهضة الزراعية يشف عن فوضى وعدم ترتيب للأولويات، علاوة على كم عدم الشفافية والضبابية الذي يكتنف كثيرا من مجالس النهضة، حيث تفتقر إلى الشفافية وعدم وجود برنامج واضح. ودعا إلى إعمال مبدأ المحاسبة، وقال إنه تنبأ بعدم نجاح النهضة الزراعية منذ بواكير تنفيذها، بالرغم من إرجاع البعض أسباب فشلها إلى ضعف التمويل جراء الأزمة المالية العالمية، بينما ذكر حسين أن فريقا آخر كان يرى أن الأزمة المالية العالمية ستشكل عامل جذب لرؤوس الأموال العربية للاستثمار في السودان، ولم يكن من ذلك شيء يذكر، وقال إن تمديد الأجل لبرنامج النهضة الزراعية إذا ما استمر بنفس وتيرته لن يكون مجديا، ودفع بحزمة دعاوى للحكومة إن كانت تطمع في الوصول إلى نهضة زراعية حقيقة، بأن تتحلى بالتجرد من عنصر الموالاة الذي تلببته في الفترة السابقة، فعليها اختيار العناصر والكوادر بناءً على تأهيلها ومدى معرفتها لا على اساس ولائها، مع ضرورة مراجعة ما تم من النهضة الزراعية من مشروعات وميزانيتها، بجانب عدم تشتيت الجهود المالية والفكرية، إذ لا يمكن النهوض بالمشاريع الزراعية في البلاد في وثبة واحدة، لذا يرى حسين أن تتبع الدولة سياسة التدرج في النهوض بالمشاريع الزراعية الواحد تلو الآخر. أما المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا دكتور عبد العظيم المهل، فيرى أن أموال النهضة الزراعية تحتاج لوقفة كبيرة من قبل الدولة، كيف واين صرفت؟ وطالب بإخضاع النهضة إلى مقاييس ومعايير دقيقة لمعرفة مدى فاعليتها وجدواها، عبر الوقوف على مدى إسهامها في زيادة الإنتاج والإنتاجية، وتشغيل العمالة والنهوض بالصادرات وتحقيق الأمن الغذائي، وإسهامها في التنمية الاقتصادية المحلية والكلية، وفاعليتها في دفع عجلة التنمية والتطور التقني بالقطاع الزراعي عبر إدخالها للتكنولوجيا الحديثة وتبادل الخبرات. ويواصل المهل قائلاً إنه بإخضاع النهضة الزراعية لتلك المعايير يلحظ تناقص عجلة الإنتاج في المشاريع الزراعية منذ عام 2007م، مما يعني أن النهضة الزراعية لم تسهم في دفع عجلة الإنتاج وكذا الإنتاجية، حيث يرى المهل أن بعض البذور التي تم استيرادها في السنوات الأخيرة اتضح عدم صلاحيتها، ففدان القمح لم يزل بالسودان يتراوح انتاجه بين 5 7 جوالات، في حين أنه يصل إلى 40 جوالا في الولاياتالمتحدة، قبل التوصل إلى فك طلاسم التركيبة الجينية للقمح. وعن مدى إسهام النهضة في تشغيل الأيدي العاملة، أوضح المهل إن أكثر العاطلين عن العمل من الزراعيين والمزارعين، حيث لم تستنبط النهضة الزراعية أساليب حديثة لزيادة عدد العاملين في القطاع الزراعي، من شاكلة إدخال الحيوان في الدورة الزراعية. ويرى المهل أن إسهام النهضة الزراعية في تشغيل العمالة ضعيف، لا سيما إذا ما تمت مقارنتها بما يمكن أن تستوعبه القطاعات الإنتاجية الأخرى مثل الصناعة من أيدٍ عاملة. ويواصل المهل قائلاً ان ما تم صرفه على الزراعة لو وظف للنهوض بالقطاع الصناعي كان بإمكانه استيعاب أكثر من مليون مواطن، وإذا ما ضخت هذه الأموال في شرايين التعدين الأهلي لكفت تشغيل أكثر من 700 ألف مواطن. ويرى المهل إن الصادرات الزراعية مازالت في حالة تراجع رغم إعلان برنامج النهضة الزراعية، حيث لم تزد حصيلتها إلى الآن عن 400 مليون دولار، أي ما يعادل أقل من 3% من صادرات السودان. وقال إذا ما تم توظيف واستثمار ما وظف للنهضة الزراعية من أموال وتمويل في الصناعات ذات الصلة الوثيقة بالزراعة مثل السكر أو حتى في مجال صناعة الأسمنت، كان بإمكانها أن تعود على الخزينة العامة بعائدات تزيد عن ثلاثة مليارات دولار سنويا. ويواصل المهل قائلاً إن النهضة الزراعية لم تحدث أثرا في النهوض بالتنمية الاقتصادية الكلية والانتاج القومي الإجمالي، فإن وجد لها أثر فيكاد لا يذكر من فرط ضآلته، لدرجة أن الزراعة أضحت مرتبطة بالفقر ارتباطا وثيقا، فلم تستطع النهضة الزراعية تحقيق اية تنمية ملموسة يمكن الاستشهاد بها، على عكس ما أحدثته بعض المشاريع الصغيرة في تكلفتها مقارنة بما أفرد للنهضة من أموال مثل مصنع جياد. ولم تساهم النهضة الزراعية كذلك برأي المهل في نقل التقانات الحديثة وتطوير القطاع، حيث مازال التراكتور يتم تهريبه إلى السودان بسبب ارتفاع الرسوم المفروضة عليه، بل إنه يباع في السودان بأسعار أعلى من تلك التي يباع بها في دول الجوار، فلم تسهم النهضة في إدخال الآليات والتقانات والمعينات التي من شأنها المساعدة في خدمة القطاع الزراعي، بل أن المزارع لم يشعر بأثر للنهضة الزراعية على أرض الواقع، بل عبر وسائل الإعلام والتصريحات الصحفية. ويخلص المهل من خلال القياسات والمعايير التي وضعها إلى فشل النهضة الزراعية، ودعا إلى استبدالها بآلية أخرى، وقال إن الأموال التي صرفت عليها لا توازي حجم إنتاجها. وأردف أن الناس يريدون أرقاما لا تصريحات، وكلاما مجملا عن بنود وأوجه صرف أموال النهضة الزراعية. وقال المهل طالما أن النهضة لم تقدم ما يقنع بجدواها في السنوات الماضية فإنه يرى تحويل الاستراتيجية القومية للقطاع الصناعي، لا سيما في مجال الصناعة التحويلية ذات الصلة بالإنتاج الزراعي، لقدرتها على تحقيق التغيير المنشود. وواصل قائلاً إذا كان تشخيص علل ومشكلات القطاع الزراعي يحتاج لأربع سنوات وإنفاق خمسة مليارات، فإنه يتوقع أن يحتاج العلاج إلى 40 سنة. «عدم الارتكاز على سياسة اقتصادية زراعية قويمة السبب وراء عدم نجاح النهضة الزراعية» بهذه المفردات ابتدرت الدكتورة نجاة يحيى المحاضرة بجامعة شرق النيل، وقالت: إن الحكومة طفقت في تخصيص أموال طائلة للنهوض بالقطاع الزراعي تحت مسميات مختلفة، فكلما فشل واحد أعقبته بآخر، وأن السمت الغالب والقاسم المشترك بينها جميعا غياب المؤسسية والشفافية والمحاسبية. وأضافت: إن ما أفرد للنهضة الزراعية من أموال قمين بتحقيق النهضة الزراعية المنشودة إذا ما تم توظيفه بصورة صحيحة، وتساءلت أنه طالما تم توفير التمويل أين العقبة؟ وواصلت: إن السودان يتمتع بمشاريع زراعية جاهزة تحتاج لبعض التأهيل لتعطي أكلها، لكن يبدو أن ثمة معاطب تسري في جسد النهضة الزراعية لا بد من الالتفات إليها، وقالت نجاة إذا كان تمرين الإعداد للنهضة الزراعية يحتاج لخمسة مليارات من الجنيهات وثلاث أو أربع سنوات، فلكم تحتاج المباراة الكاملة. وواصلت إذا ما سارت الأمور بوتيرتها الحالية فإن أي صرف على النهضة الزراعية يقع في قالب بعثرة الموارد، لأنه لن يكون ذا جدوى. ودعت نجاة إلى مؤتمر اقتصادي جامع عله يكون على يديه ومن بين توصياته طوق النجاة للاقتصاد السوداني ككل، والقطاع الزراعي على وجه الخصوص، عبر منهج إدارة قويم قائم على توظيف الموارد المتاحة بصورة صحيحة ومقابلتها بشفافية ومحاسبية، وأنه إذا لم يتم هذا لأمر سنظل نحرث في البحر برأي نجاة. ويرى الدكتور محمد الناير أن مشروعات النهضة الزراعية تتأرجح بين طول وقصر المدى، بيد أن وضع البلاد زراعيا يحتاج لتنفيذ برامج النهضة بأعجل ما يمكن، شريطة مراعاة الالتزام بالخطط والدراسات الموضوعة. ويرى أن الطريقة التي تسير بها برامج النهضة الزراعية سمتها البطء، وأنها في عامها الثالث لم تحقق غاياتها المستهدفة، وقال لا بد أن يكون هناك شيء ملموس على أرض الواقع من نتائج برامج النهضة الزراعية على الاقل بعد مرور ثلاث سنوات من انطلاق قطار النهضة الزراعية. وقال إن ثمة عملا بدأ في برنامج حصاد المياه بالولايات المختلفة لا سيما كردفان، كما طالب بوضع سياسات متكاملة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وتصدير الذرة الرفيعة إلى دول الجوار، علاوة على تسريع عجلة إنتاج الحبوب الزيتية والقطن لتحريك القطاع الصناعي المرتبط بها، ووفق كل ذلك يرى الناير ضرورة ملحة لتغيير التركيبة المحصولية بزراعة ما يتماشى وأذواق الناس، وما تطلبه الأسواق المحلية والعالمية. وختم إفاداته بأن النهضة الزراعية بإمكانها تحقيق أهدافها المنشودة في ظل العشر سنوات التي طالبت بها، شريطة أن يتم توفير مال دوار بحجم مقدر للمخزون الاستراتيجي للشراء من المنتج. ومن خلال الإفادات عاليه يتضح بجلاء أن ثمة ما يعتري مشروع النهضة الزراعية من متاريس لا بد من تضافر الجهود لتخطيها والوصول إلى الهدف المنشود، إذ أن العزم السياسي والحجم المالي الذي أفردته الحكومة للنهضة الزراعية جدير بأن يرتجى منه، فهل نطمع في رؤية ما يقوم مسيرة النهضة الزراعية؟