المخدرات.. من الفراعنة حتى محمد صلاح!    خطف الموزة .. شاهدها 6 ملايين متابع.. سعود وكريم بطلا اللقطة العفوية خلال مباراة كأس الأمير يكشفان التفاصيل المضحكة    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    لولوة الخاطر.. قطرية تكشف زيف شعارات الغرب حول حقوق المرأة    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    مدير شرطة ولاية القضارف يجتمع بالضباط الوافدين من الولايات المتاثرة بالحرب    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    توجيه عاجل من"البرهان" لسلطة الطيران المدني    حركة المستقبل للإصلاح والتنمية: تصريح صحفي    جبريل إبراهيم: لا يمكن أن تحتل داري وتقول لي لا تحارب    برقو الرجل الصالح    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتخابات البرلمانية في السودان (1953-1986): مقاربة تاريخية-تحليلية
نشر في السوداني يوم 10 - 02 - 2021


الفاتح عبد الله عبد السلام
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2020)
*****
مقدمة الطبعة الثانية
مضى 12 عامًا على صُدور طبعة هذا الكتاب الأولى، 34 عامًا على إجراء آخر انتخابات برلمانية نزيهة في السودان. وبعدها شهدت البلاد الكثير من الانتخابات الرئاسية والولائية الصورية؛ لإضفاء شرعية على نظام الإنقاذ (1989-2019) الذي حكم مدةً تقارب ال30 عامًا، في ظل معارضة داخلية شرسة ومتعددة الواجهات السياسية، وحصار اقتصادي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على السودان، ومطالبة جنائية بتسليم الرئيس عمر حسن البشير للمحكمة الجنائية الدولية لاتهامه بتدبير إبادة جماعية ضد المتمرّدين في دارفور.وقد تراكمت مظالم النظام وتعاظم فساده الإداري والمالي، وبلغت الأزمة مداها بشُحِّ المواد النفطية في محطات الخدمة، ورغيف الخبز في المخابز، والنقود في البنوك والصرّافات الآلية. ونجم عن ذلك اندلاع شرارة الثورة الأولى في مدينة الدمازين في ولاية النيل الأزرق في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2018، ثم إنّ الثورة انداحت أفقيًّا في المدن والأرياف المختلفة، وتمدّدت رأسيًّا في أوساط قطاعات المجتمع المهنية والعمالية. وتواصلت المظاهرات الشعبية إلى أن بلغت ذروتها باعتصام الثوار أمام المقر الرئيس لقوات الشعب المسلحة في الخرطوم في 6 نيسان/ إبريل 2019. فكانت بداية الاعتصام ترمز إلى يوم 6 نيسان/ إبريل 1985، اليوم الذي سقط فيه نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد النميري (1969-1985)، وفرضت أهمية المكان التزامًا أخلاقيًّا على قوات الشعب المسلحة بأن تحمي الثوار الذين كَفل الدستور لهم حق التظاهر السلمي والمطالبة بحقوقهم السياسية. لكن عندما أدركت اللجنة الأمنية العليا أن الحلول الأمنية الموجّهة إلى حماية رأس النظام، الرئيس عمر البشير، لا تُجدي نفعًا أمام أمواج المتظاهرين الهادرة والمتدفقة، آثرت التضحية به وببعض رموز نظامه، وأعلنت الانقلاب عليهم في 11 نيسان/ إبريل 2019. ونتيجةً لهذا الإحلال والإبدال العسكري، دخلت الثورة مرحلة جديدة، حيث بدأت المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير التي رفعت شعار "الحرية والسلام والعدالة"، ونادت بتشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية، لتقوم بتهيئة المناخ السياسي من أجل تنفيذ إجراءات التحول الديمقراطي وقيام دولة القانون والحريات العامة. وإلى تاريخ كتابة هذه المقدمة، لا تزال المفاوضات جارية بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، لإنشاء حكومة انتقالية،على امتداد 39 شهرًا، تتشكل من مجلس سيادي مختلط (5 عسكريين و6 مدنيين) ومجلس وزراء من كفاءات وطنية ومجلس تشريعي، وتختار قوى إعلان الحرية والتغيير 67 في المئة من أعضائه، أما الأحزاب السياسية الأخرى فتختار 33 في المئة منهم، بشرط ألّا يكون الأعضاء المُختارون من فلول النظام القديم. وقد حدّد الجدول الزمني بيوم 18 آب/ أغسطس 2019 لإعلان تشكيل مجلس السيادة السوداني أو المجلس السيادي، ويوم 28 آب/ أغسطس 2019 لإعلان تشكيل مجلس الوزراء، بينما أُرجِئ تكوين المجلس التشريعي فترةً لا تتجاوز 3 شهور من تاريخ تعيين مجلس الوزراء. وفي ما يخص برنامج الفترة الانتقالية، حدّدت الوثيقة الدستورية، التي وقعها الطرفان في احتفالٍ رسمي في 17 آب/ أغسطس 2019، اختصاصات الحكومة الانتقالية في مايلي:
 العمل على تحقيق السلام العادل والشامل وإنهاء الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السُّودانية ومعالجة آثارها مع الوضع في الاعتبار التدابير التفضيلية المؤقتة للمناطق المتأثرة بالحرب والمناطق الأقل نمواً والمجموعات الأكثر تضرراً،
 إلغاء القوانين والنصوص المقيدة للحريات أو التي تميز بين المواطنين على أساس النوع،
 محاسبة منسوبي النظام البائد عن كل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السُّوداني منذ الثلاثين من حزيران/يونيو 1989م وفق القانون،
 معالجة الأزمة الاقتصاديَّة والتدهور الاقتصادي والعمل على إرساء أسس التنمية المستدامة وذلك بتطبيق برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي وإنساني عاجل لمواجهة التحديات الراهنة،
 الإصلاح القانوني وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلال القضاء وسيادة القانون،
 العمل على تسوية أوضاع المفصولين تعسفياً من الخدمة المدنية أو العسكريَّة والسعي لجبر الضرر عنهم وفقاً للقانون،
 ضمان وتعزيز حقوق النساء في السُّودان في المجالات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة كافة ومحاربة أشكال التمييز ضد المرأة كافة مع مراعاة التدابير التفضيلية المؤقتة في حالتي السلم والحرب،
 تعزيز دور الشباب من الجنسين وتوسيع فرصهم في المجالات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة،
 إنشاء آليات للإعداد لوضع دستور دائم لجمهورية السُّودان،
 عقد المؤتمر القومي الدستوري قبل نهاية الفترة الانتقالية،
 سن التشريعات المتعلقة بمهام الفترة الانتقالية،
 وضع برامج لإصلاح أجهزة الدولة خلال الفترة الانتقالية بصورة تعكس استقلاليتها وقوميتها وعدالة توزيع الفرص فيها دون المساس بشروط الأهلية والكفاءة، على أن تسند مهمة إعمال إصلاح الأجهزة العسكريَّة للمؤسسات العسكريَّة وفق القانون،
 وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تحسين علاقات السُّودان الخارجيَّة وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها،
 القيام بدور فاعل في الرعاية الاجتماعيَّة وتحقيق التنمية الاجتماعيَّة من خلال السعي لتوفير الصحة والتعليم والسكن والضمان الاجتماعي، والعمل على المحافظة على بيئة طبيعة نظيفة وعلى التنوع الحيوي في البلاد ورعايته وتطويره بما يضمن مستقبل الأجيال،
 تفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من حزيران/يونيو 1989م وبناء دولة القانون والمؤسسات،
 تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بدعم إفريقي عند الاقتضاء وفق تقدير اللجنة الوطنية، لإجراء تحقيق شفاف ودقيق في الانتهاكات التي جرت في الثالث من يونيو 2019م، والأحداث والوقائع التي تمت فيها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين مدنيين أو عسكريين، على أن تشكل اللجنة خلال شهر من تاريخ اعتماد تعيين رئيس الوزراء، وأن يشمل أمر تشكيلها ضمانات لاستقلاليتها بالصلاحيات كافة للتحقيق وتحديد المدى الزمني لأعمالها.
بناءً على هذه الإجراءات الدستورية، ستبدأ الفترة الانتقالية الثالثة (2019-2022) متّسقةً مع الفترتين الانتقاليتين السابقتين في ما يخص تهيئة المناخ السياسي لإجراء الانتخابات العامة قبل انتهاء الفترة الانتقالية، ومختلفةً معهما من حيث القيد الزمني؛ لأن أمدها المُتّفق عليه هو 3 أعوام وبضعة شهور؛ إذ إنّ نجاحها مرتبط بتجاوز إخفاقات التجربتين الانتقاليتين السابقتين (1964-1965، 1985-1986)، وبالعمل الجاد والمثمر لوضع خريطة طريق واضحة المعالم من أجل تسهيل إجراءات تحول ديمقراطي مستدام يقي البلاد شرّ العودة إلى نظام الحكم العسكري الشمولي الذي حكم بمنطق القوة مدة 52 عاماً(1958-1964، 1969-1985، 1989-2019). ويوضح الشكل (مقدمة-1) الخط الزمني للفترات البرلمانية والانتقالية والعسكرية المشار إليها.
الشكل (مقدمة-1)
الخط الزمني لأنظمة الحكم في السودان (1956-2019)
المصدر: تصميم أحمد إبراهيم أبوشوك
يقدم هذا الكتاب عرضًا موثّقًا لفترات التحوّل الديمقراطي الثلاث المشار إليها، وإجراءات الانتخابات العامة السابقة، والنتائج التي أفضت إليها. ويوضح كيف فشلت الحكومات البرلمانية المنبثقة من الانتخابات العامة في إنجاز التحول الديمقراطي المستدام؛ بسبب عدم التزامها بالمبادئ الديمقراطية القائمة على احترام التعددية والرأي الآخر، والفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وسيادة حكم القانون، والتداول السلمي للسلطة. وتؤكد تلك الممارسات غير الديمقراطية في فترات الحكم البرلماني السابقة أن الانتخابات ليست الوسيلة الوحيدة لإحداث التحول الديمقراطي، لأن الديمقراطية هدف في حد ذاتها، والانتخابات وسيلة لتحقيقها. وقد أُجري في عهد الحكومة العسكرية الأولى (1958-1964) والثانية (1969-1985) والثالثة (1989-2019) الكثير من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الصُّورية التي لم تنجح في إنجاز التحول الديمقراطي المنشود، لأن السلطات الحكومية الراعية لها لم تلتزم شروط الانتخابات الحرة والنزيهة، بل كان هدفها الأساسي خداع المعارضين الداخليين والرأي العالمي، وإقناعهم بأن نتائج صناديق الاقتراع تقر بشرعية النظام القائم.
هنا يُطرح سؤال جوهري مُلحّ: لماذا تعسّر مسار تجارب التحول الديمقراطي الثلاث في السودان؟ أيُعزى هذا العسر إلى عدم التزام النخب السياسية بمبادئ العمل الديمقراطي، أم إلى ضعف المعايير السياسية والاجتماعية الموجهة إلى التحول الديمقراطي نفسه، أم إلى تعارض البنية الاقتصادية والتكوينات الاجتماعية مع مبادئ الممارسة الديمقراطية؟ وهل أنّ المؤسسة العسكرية كانت، ولا تزال، مهددًا رئيسًا لتمكين التحول الديمقراطي في السودان؟
نجد بين دفتَي هذا الكتاب إجابات متفرقة عن هذه الأسئلة، ترتبط في جوهرها بنشأة الدولة السودانية الحديثة في كنف الاستعمار الإنكليزي – المصري (1898-1956)، وبالقيم المعيارية الناظمة لحركة المجتمع السوداني؛ إذ أفرزت الدولة الاستعمارية بتركيبتها الثنائية (الإنكليزية – المصرية) والمجتمع السوداني ببنيته الطائفية – القبلية، واقعًا مُثقلًا بالتناقضات السياسية التي تجسدت في شعارَي "السودان للسودانيين" و"وحدة وادي النيل"، وصراعات الأنصار والختمية، وجدلية التقليد والحداثة. وبعد خروج المستعمر، أضحت هذه الثنائيات جزءًا من الثوابت الموجهة لمسار الحراك السياسي في أوساط الأحزاب الوطنية الرئيسة، وبدرجات متفاوتة في ممارسات الأحزاب العقدية والحركات الجهوية. ولذلك وصف الإمام الصادق المهدي الأحزاب بأنها: "تشتمل على معالم تخلف، يختلط فيها الولاء الديني والقبلي والجهوي والفكري والسياسي، فهذا أمر لا مفرّ منه. إن السودان متخلِّف اجتماعيًّا، فكل أدوات العمل العام فيه تعكس هذا التخلف"؛ إذلا يزال السواد الأعظم من المواطنين يعاني ثقل المعايير البدوية، المحكومة بعقلية القبيلة، والمسيّرة وفق توجّهات الطوائف الدينية والطرائق الصوفية. وقد شكّلت هذه الثنائية القاعدةَ التي استندت إليها الأحزاب السياسية الكبرى التي قادت النضال ضدّ المستعمر، ثم سيطرت على إدارة الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال. كما ساهمت في ظهور مفهوم "حزب الرجل الواحد" الذي يمتلك رئيسه الخيارات السياسية المتاحة كلها، ويضع الأعضاء الذين ينتقدون إدارته للحزب أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن ينصاعوا لتوجّهاته السياسية، وإما أن ينسلخوا عن الحزب ويؤسسوا حزبًا أو أحزابًا جديدة. واستشهدنا في هذا الكتاب بانسلاخ حزب الشعب الديمقراطي من الحزب الوطني الاتحادي في عام 1956، وانقسام حزب الأمة إلى جناحين في عام 1966: جناح الإمام الهادي، وجناح السيّد الصادق المهدي،إضافة إلى حالة التشظّي والانشقاقات الحزبية الواسعة التي شهدتها الساحة السياسية في عهد حكم الإنقاذ، والدليل على ذلك أن عدد الأحزاب المسجلة رسميًّا تجاوز 83 حزبًا، انسلخ معظمها من أحزاب سياسية رئيسة.
امتدّت هذه القيم القبلية – الطائفية "المُضرّة"، كما يرى حيدر إبراهيم علي، إلى بعض الدوائر الانتخابية التي أضحت حكرًا على مرشحي أُسرٍ قبليةٍ بعينها في المجالس البرلمانية المنتخبة، والمجالس التشريعية التي ابتدعتها الأنظمة العسكرية لتجميل صورتها السياسية واكتساب نوع من الشرعية. ولا غضاضة في أنْ تتكرّر الأسماء وتحتكر بعض الأُسر دوائر نفوذها الانتخابي في سياق الممارسة الديمقراطية. لكن تكمن المشكلة في غياب البرنامج الانتخابي، ودرجة إيمان المرشّح بالنظام الديمقراطي نفسه، والدفاع عن استحقاقاته السياسية على المستويين المركزي والمحلي. كما أن بعض النواب البرلمانيين بقي يُغيّر مواقفه باستمرار بحسب المناخات السياسية، بغضّ النظر عن درجة الالتزام بالمبادئ الديمقراطية. ويبدو أن هذه المشكلة ترتبط في بُعدِها الأدنى بضعف الوعي السياسي الديمقراطي للناخب السوداني الذي لا يمنح صوته للخطط أو البرامج الانتخابية، بل يُصوِّت للطائفة التي ينتمي إليها أو للقبيلة أو للعلاقات الأسرية التي تربطه بالمرشح. وأطلق الباحث اللبناني غسان الخالد على مثل هذه الممارسات مصطلح القيم "البدوقراطية" التي تقوم على ذهنية قبلية – دينية، وتتصف بالنزعة الأبوية والتوارث الوظيفي والرغبة الأبدية الدائمة في تولّي السلطة واستنفار العصبية في الاستحقاقات المفصلية، والخطاب السياسي العاطفي لكسب الجماهير، كماتتصف أيضًا بغياب النقد الذاتي للمؤسسة الأهلية أو السياسية التي ينتمي إليها الفرد. وهنا يكمن أسّ الاختلاف بين "البدوقراطية" والديمقراطية التعددية التي تستمد قوتها من الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحرية التنظيم والتعبير، وتعدّد مصادر المعلومات، والانتخابات الحرة العادلة والمتكررة، والتقيّد بحكم القانون، ومحاسبة الحُكام والرقابة عليهم، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين من دون تمييز، مع حماية حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليًّا.
يوضّح هذا الكتاب أن عملية الانتقال السياسي إلى النظام البرلماني في السودان،تمّت من أسفل إلى أعلى، عن طريق ثورتين شعبيتين (تشرين الأول/ أكتوبر 1964، ونيسان/ إبريل 1985)، أجبرتا العسكر على التنحّي عن السلطة، وأفسحتا المجال لإحداث تحول ديمقراطي، وذلك بخلاف التحولات الديمقراطية التي حدثت من أعلى إلى أسفل في جنوب إفريقيا عن طريق الاتفاق الذي أُبرم بين فريدريك ويليام دي كليرك (رئيس حكومة الفصل العنصري) ونيلسون مانديلا (رئيس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي)، وفي نيجيريا وزامبيا عن طريق المؤتمرات الوطنية التي نظّمتها السلطات الحاكمة. وأثبتت التجارب الإفريقية أن التحولات الديمقراطية التي نُفّذت من أعلى، كانت أكثر ثباتًاً واستدامة، لأنها التزمت بجداول زمنية معيّنة وخطوات إجرائية واستراتيجية لإحداث التحول الديمقراطي المُتفق عليه، وذلك بخلاف التحولات الديمقراطية التي فُرِضَت من أسفل عبر ثورات شعبية، لأن مخرجاتها اتّسمت "بدرجة عالية من الشك والريبة"، كما حدث في ليبيا ومصر في عام 2011. ويبدو أن درجة الشك والريبة في مصر مثلًا ارتبطت بفوز حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين التي تُعتبر في نظر بعض الأكاديميين "حركة ليست ديمقراطية"، بل "مستعدة في أقصى حالات تطوّرها للتكيّف مع الديمقراطية، والأهم في ذلك تكييف الديمقراطية معها، حيث تضبط مسائل الحريات العامة بموجب تصوّرها للشريعة". ونتيجةً لذلك، فضلت القوى الليبرالية المعارضة للإخوان المسلمين التحالف مع فلول النظام القديم، ثم تأييد الانقلاب العسكري – السياسي ضدّ حكومة الرئيس محمد مرسي (2012-2013). ومن خلال هذه الكيفية، أُفرغ التحول الديمقراطي من محتواه السياسي في مصر.
إذًا، كيف يتحقّق الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي في السودان في مواجهة "دولة عميقة" حكمت البلاد 3 عقود (1989-2019)، ولا يزال بعض عناصرها يشغل الكثير من المناصب المفتاحية في الدولة؟ وما الخطوات المطلوبة لإنجاح الفترة الانتقالية الثالثة التي رفعت شعار "الحرية والسلام والعدالة"، ووعدت الثوّار بإنجاز تحول ديمقراطي كامل؟ تقتضي الإجابة عن هذين السؤالين النظر في مآلات التجربة المصرية من جهة، وواقع الثورة السودانية المعيش من جهة أخرى؛ ذلك أن نجاح أي تجربة انتقالية يمكن أن يُقاس في ضوء الشروط الخمسة التي وضعها خوان لينز (Juan Linz) وألفرد ستيبان (Alfred Stepan)، وهي تتمثل في قناعة النخب السياسية بفشل تجارب الحكم السابقة والالتزام بحماية التحول الديمقراطي، والتأهيل المؤسسي للقوى السياسية الفاعلة كلها خلال الفترة الانتقالية من دون إقصاء أي منها؛ لإشعار الجميع بأنهم شركاء في عملية التحول الديمقراطي، ومنح العسكر مُحفّزات تُشعِرهم بأن ثمن بقائهم في عملية التغيير أكثر قيمة من ثمن إبعادهم عنها، يضاف إلى ذلك أن تكون عملية التنافس على الغالبية الانتخابية مُشاعةً بالتساوي بين الكينونات السياسية التي أُنشئت في ظل الانتقال الديمقراطي، فضلًا عن تشجيع التسويات السياسية والتعاون بين الجماعات المتخاصمة، ووجود تاريخ مشترك للتفاوض ومدّ الجسور بين القُوى المتخاصمة، على نحو يُلزِمها بأن تكون العملية الانتقالية أسمى مقامًا من خلافاتها الجانبية التي لا تصبّ في مصلحة التحول الديمقراطي. وفي ضوء هذه الشروط المعيارية، خلص عزمي بشارة إلى أن عملية إسقاط الرئيس المصري محمد حسني مبارك، في 11 شباط/ فبراير 2011، تضمّنت عنصرين متفاعلين هما: "ثورة شعبية مدنية واسعة ذات طابع ديمقراطي"، و"انقلاب عسكري قام به الجيش على مبارك". وبناءً على ذلك، أضحت الفترة الانتقالية بعد الثورة المصرية، من وجهة نظره، عبارة عن "تاريخ صراع بين مكوّن الثورة ومكوّن الانقلاب الكامن فيها". وفي خاتمة المطاف، انتصر المكوّن الانقلابي على المكوّن الثوري؛ لأن غالبية قوى المكون الثوري كانت مشككة في التزام حزب الحرية والعدالة بالمبادئ الديمقراطية، لذلك آثرت مناصرة الانقلاب العسكري – السياسي على التحول الديمقراطي المشكوك في أمره. وإذا نظرنا إلى التجربة المصرية إجمالًاً، فسنلحظ أن لها قواسم مشتركة مع التجربة السودانية. أولًا، لم تكن المجموعة العسكرية التي انقلبت على قيادة النظام القديم في السودان وأعلنت انحيازها إلى الثورة الشعبية مجموعةً ملتزمةً بمبادئ الديمقراطية، أو بمهمات القوات المسلحة في حماية الأمن القومي والدستور، بل يُرجح الرأي الذي مفاده أن هدفها الرئيس كان، ولا يزال، ممثّلًا في حماية مؤسسات النظام القديم ومكتسباتها الشخصية، من دون أن تكون متحمّسة لقضايا التحول الديمقراطي وإحداث قطيعة مع إرث النظام القديم القائم على ثنائية الفساد والاستبداد. ثانيًا، لم يكن تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير تحالفًا متجانسًا؛ لأن الذي يجمع بين مكوّناته هو العداء ضدّ النظام القديم، والعودة إلى النظام الديمقراطي، من دون الاتفاق على برنامج موحد لإنفاذ عملية التحول الديمقراطي نفسها. ويتّضح ذلك جليًّا في المواقف المعارضة لمضمون الاتفاق السياسي والدستوري الذي وقّعته قُوى إعلان الحرية والتغيير مع المجلس العسكري؛ ليكون بمنزلة خريطة طريق لإدارة الفترة الانتقالية. والشاهد في ذلك قول عبد العزيز آدم الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في ولاية جنوب كردفان، الذي وصف الاتفاق (بشقّيه السياسي والدستوري) بأنه "عبارة عن وصفة لشمولية أخرى، ومقدمة لحرب أهلية أوسع من سابقاتها"؛ ذلك أنه يرى أن الفريق المفاوض من قوى إعلان الحرية والتغيير قدَّم تنازلات للعسكريين "ستُمكّنهم من السيطرة على مقاليد الأمور، لعرقلة أي إصلاحات كان يمكن أن تضطلع بها الحكومة المدنية الانتقالية" التي نادى الثوار بها. ثم يمضي في الاتجاه ذاته قائلًا: "باختصار، هذا الاتفاق هو محاولة من قوى السودان القديم، بجناحيها العسكري والمدني، لإعادة إنتاج السودان القديم، القائم على التهميش والعنصرية، وكمحاولة أخيرة لصيانة وحراسة الامتيازات التاريخية غير المشروعة لهذه القوى". إذًا، يمثّل هذا الموقف والمواقف الأخرى الرافضة للاتفاق بشقيه السياسي والدستوري (مثل الحزب الشيوعي السوداني والجبهة الثورية السودانية)، تحدّيًا حقيقيًّا لتماسك الجبهة الداخلية لقوى إعلان الحرية والتغيير، ويُضعف موقفها أيضًا أمام الأحزاب السياسية الأخرى، المعارِضة أصلًا لقوى إعلان الحرية والتغيير وأطروحاتها السياسية. ثالثًا، يثير عدم إجماع قوى إعلان الحرية والتغيير على الوثيقة الدستورية التي وُقّعت في 4 آب/ أغسطس 2019، باعتبارها ميثاقَ عبورٍ للتحول الديمقراطي، كثيرًا من الضبابية بشأن مستقبل عملية التحول الديمقراطي نفسها. وتُفضي بنا الشواهد الثلاثة التي ذكرناها إلى أن الفترة الانتقالية في السودان ستواجه تحديات كثيرة؛ لأنها لم تفِ بالحدّ الأدنى من شروط النجاح التي أشار إليها لينز وستيبان، إضافة إلى أنها تحمل بين طيّاتها بعض الجينات السياسية الخبيثة التي أفشلت التجربة المصرية، كما يرى بشارة. ويقتضي تجاوز هذه التحديات أن تعيد قوى إعلان الحرية والتغيير النظر في ترتيب مواقفها الداخلية بطريقة وطنية وديمقراطية، ثم تُراجع مواقفها الخارجية مع القوى السياسية الأخرى المتعاطفة مع عملية التحول الديمقراطي. وتعني إعادة النظر وتوسيع دائرة الاتفاق السياسي بشأن برنامج الحد الأدنى المُلزم للأطراف كلها، من أجل مساندة الفترة الانتقالية. ويمكن أن تشكل هذه الخطوة، في حال نجاحها، إجماعًا سياسيًّا على الوثيقة الدستورية التي وقَّعها الطرفان (قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري)، وأن تُساهم في محاصرة العسكريين في المجلس السيادي، ليكونوا أكثر التزامًا بمتطلّبات التحول الديمقراطي. ومن ناحية إجرائية، يجب أن تضع الحكومة الانتقالية المرتقبة رؤية استراتيجية شاملة، ترتكز على دراسة عناصر القوة والضعف الناظمة لمفردات البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في السودان، وطبيعة المهددات التي تواجه شعارات الثورة، والفرص المُتاحة لإيفاء استحقاقات التحول الديمقراطي التي يمكن إجمالها في تهيئة البيئة السياسية وتشكيل مفوضية الانتخابات القومية والأجهزة التابعة لها، والاتفاق على قانون انتخابات يُلبّي تطلّعات الثورة.
يُقدّم هذا الكتاب مادةً ثريّة ومفيدة عن بعض مفردات الرؤية الاستراتيجية المرتبطة بعناصر القوة والضعف التي لازمت تجارب التحولات الديمقراطية السابقة، إضافةً إلى الكيفية التي يمكن الإفادة منها لتحقيق متطلّبات الفترة الانتقالية الثالثة.
وفي الختام، تبقى كلمة أخيرة مفادها الشكر والتقدير لمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي في أم درمان، الذي أشرف على إعداد طبعة هذا الكتاب الأولى، ونَشرَها في عام 2008. والآن، نفدت هذه الطبعة من المكتبات التجارية، لذلك آثرنا إعادة طبع الكتاب ليكون في متناول القارئين والباحثين، في وقت يمرُّ فيه السودان بمخاض انتقال عسير من إرث حكومة الإنقاذ الشمولي إلى عهد جديد، نأمل أن تسود فيه الممارسة الديمقراطية وسيادة حكم القانون والاعتراف بالحريات العامة وتجاوز أخطاء التجارب السابقة الواردة بين دفتي هذا الكتاب. أما بشأن مناسبة إخراج هذا الكتاب في طبعته الثانية، فهناك تقدير وعرفان مستحق لعزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي أوصى بإعادة إصداره ضمن إصدارات المركز المهتمة بقضايا الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي والممارسة الديمقراطية في الوطن العربي؛ والشكر موصول أيضًا لعبد الفتاح ماضي، منسّق مشروع التحول الديمقراطي في المركز، الذي أشرف بعناية على إعداد هذه الطبعة الثانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.