لست ناشطا في الكتابة الصحفية، ومن الكياسة أن ابادر بالقول إن هذه الخاطرة عنت في مقام رسائل متبادلة بينى وبين سفير المملكة المتحدة بالسودان. ويجمل عند الحديث مع الدبلوماسيين وإن جاء في مقام التخاطر الودي غير الرسمي تحاشى أجيج اختلاط كلام الناس مع حفيف مشيهم، والتزام آداب الموقف وضوابط موازين الحرف. فقد تلمست من سعادة السفير الصديق إشفاقا، وربما قلقا، وشيئا مما يعتمل في صدور زملاء له من عموم الوسط الدبلوماسى الغربي، بشأن مآلات الأمور بالسودان. بل لمست ندما على ما عُدَّ تسرعا من بريطانيا في اعلان تأييد الحوار الوطني بالسودان. فقلت رداً على مدونةٍ له خطها الأسبوع المنصرم فوددت ردها وكأن بنحري ومنكبي عبيرا اذ سأورد بها هذه المرة فضاء المتاح العام لجمهرة القراء والسابلة عرضا للرأي العام اذ احسست أن بها حسن ظن من عندي، انها رسالته ورسالتي قد تصلح مدخلا لابتدار حوار من باب ادب البوح لأمثالنا ممن اكلت دابة التكاليف وأعباء الأمانة نضير عمرهم وربما حرفهم. واقول قد لا تعد الأسابيع القليلة الماضية من بين أفضل أوقات السودان ايها الصديق. بل أطلق البعض العنان لخيالات كارثية، سيما في مسألتي مآلات الحوار وما أثارته قضية أبرار. غير أنه لدي من الأسباب ما يجعلني أقول بأن من ينتظرون الكوارث سينتظرون طويلاً. بدءاً أود الاعتراف أنه بعد انفصال الجنوب، بدا السودان وكأنه يقف من جديد على شفير هاوية الحرب الأهلية والانقلابات والقمع. على الرغم من ذلك، فقد عقد هذا الوطن العزم على ألا يتردى في الدركات وأن ينأى بنفسه عن تلك المهالك التي بلى شرها وخبر مرها. في حقيقة الأمر، أدار السودان ظهره بالكلية لتلك الهاوية، بل هو على وشك اتخاذ الخطوة الأولى بعيداً عنها. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الوداع المسترسل ليس مستحسناً، إلا أننا في السودان لا نعرف الإيجاز عند الفراق. بالإضافة إلى ذلك، فإن الطريق التي نسلكها بعيدا عن الهاوية مبهمة المعالم، كما أنها لا تخلو من منعرجات بل ومتاهات ومفاوز. وبعيداً عن المجاز، دعني أقول إن الحوار هو جذر الخلاف وأس الجدال، إذ أنه أميل إلى توليد الرؤى المتباينة ووجهات النظر المتضاربة منه إلى الحد منها. بل أجرؤ على القول إن الحوار قد يفضي إلى مزيد من النزاع، ولن ينهي على الإطلاق أياً من الماثل منه، ليس في أقل القليل. عملية الحوار كلها تقوم على إتاحة المجال لتتبلور وجهات النظر بحرية وتتكون المواقف والمواقف المقابلة بمسئولية ودون تقييد ما دام ذلك كله يتم في إطار القانون. وبالتالي، فإنه كان من الحكمة بمكان أن تعبر المملكة المتحدة عن دعمها لعملية الحوار الوطني في السودان. وكان موقفاً نبيلاً وحصيفاً يليق بالمملكة المتحدة ووشيج صلتها بالسودان. فما أحوج من يقبلون على مثل هذه العمليات الرائدة الى تشجيع الأصدقاء. بل لعل ذلك التشجيع يكون السبب الأول للنجاح. وفي أحلك اللحظات، التي تسبق الفجر، ينبغي أن تكون الانتكاسات سبباً للأمل والترقب وليست مدعاةً لليأس والقنوط. كنت في انجلترا الأسبوع الماضي عندما اصطف رئيس الوزراء ديفيد كاميرون مع نيك كليج وإد مليباند في قصر ويستمنيستر للتعبير عن صدمة المملكة المتحدة بالحكم الصادر عن محكمة سودانية بالردة والزنا، وصفوه تباعاً بأنه حكم "مروع" و"همجي" و"لا يتسق مع عالم اليوم". محنة أبرار/مريم قد لمست وتراً حساساً لدى كل الدوائر داخل السودان وخارجه. في واقع الأمر، لا أظن أن هناك من لا يتمنى أن ينتهي هذا الامتحان القاسي لمريم وأسرتها الصغيرة نهاية سريعة وسعيدة. ومع ذلك، وإن كانت الإنسانية قد تغلبت بالفعل على أشد العواصف المرتبطة بالاعتبارات الدينية، إلا أنها لم تأت بعد بصيغة توفق بين معتقداتها الراسخة والقيم والمثل الناشئة. وأسوق مثالاً لذلك من الجزر البريطانية نفسها.. لا شك أنك تذكر أنه في العام 1996 نظمت جمهورية إيرلندا استفتاء على ما إذا كان يجب أن يستمر الطلاق محظوراً دستورياً في إيرلندا أم لا. في ذلك المجتمع متزايد العلمانية شجعت معظم الأحزاب السياسية الناخبين على الموافقة على تعديل الدستور. على الرغم من ذلك، قطعت الأم تيريزا كل المسافة من كلكتا الى دبلن لقيادة حملة المتشددين من رجال الكنيسة ونسائها للتشجيع على التصويت بالرفض. بالنسبة لها، فإن الأفضل للمرأة الإيرلندية المتزوجة من رجل سكير لا يكف عن ضربها، بل يطأ المحارم، هو أن تبقى على تلك الحالة ولا تلجأ الى الطلاق. لأن الطلاق سيهدد خلاص روحها يوم القيامة ويحرمها من خلاص السيد المسيح ويزج بها في الجحيم الأبدي. بالنسبة للأم تيريزا فإن أطروحة العلمانيين، التي تقول إنه ليس من حق الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أن تفرض قيمها الأخلاقية على المواطنين الإيرلنديين، لا تعني شيئاً البتة. كانت النتيجة النهائية لهذه المواجهة التاريخية بالغة الأهمية أنه في الجزر البريطانية، وفي العقد الأخير من القرن العشرين، لم يتم تعديل الدستور الإيرلندي لإلغاء حظر الطلاق إلا بصعوبة شديدة وبأغلبية ضئيلةٍ للغاية. عندما نضع في الاعتبار مثل هذه التجارب الهادية، فانه لا يحق لأحد أن يتكهن بأن أيِّ برلمان ينتخب في السودان وينعقد في امدرمان سيقوم في أي يومٍ من الأيام بإسقاط مادتي الردة والزنا من القانون الجنائي السوداني. أقول هذا وأنا أدري أن هناك من علماء الإسلام المرموقين، مثل د. حسن الترابي، من يشكك في الأصول الفقهية لجريمة الردة في الإسلام. فمثل تلك الآراء تظل محترمةً ومقدرةً كاجتهاد لكنها لا تعد ضمن المصادر التي ترفد التشريع. ومن ثم فإن الأرجح هو أن يشغل العديد من السودانيين ذلك المنصب المرموق بالقصر الجمهوري بالخرطوم ويغادرونه فرداً بعد فرد وجيلاً بعد جيل بينما تظل جريمة الردة راسخة وثابتة دون تغيير. وبالمناسبة عزيزي فإن هذه الجريمة قد ادرجت للمرة الأولى في القانون الجنائي السوداني في العام 1983 إبان حكم الرئيس النميري، وجاء بعد ذلك ومضى رؤساء . إن التباري في اختيار عبارات الإدانة البليغة يكرع فيها القاعد والقائم فيعب عبا محببا في مائها منكبا لن يفيد كثيراً في تفهم أو معالجة حالات مثل حالة أبرار، التي توجد مثيلاتها في كل أرجاء المعمورة. ولعل الإسلام ليس الدين الوحيد الذي يتخذ موقفاً حدياً من مسألة التجديف. بل لا تقتصر مشاركته في ذلك على اليهودية والمسيحية وحدهما. فسوفوكليس قد علمنا، قبل ظهور ديانات التوحيد جميعاً، كيف أن أنتيجون قد عبرت عن البشرية جمعاء في استهجانها للتجديف. بل قل لي يا صديقي أين بومباي الأربعينيات من القرن الماضي التي تزدهر تنوعاً حسبما جاء وصفها في رواية "آخر آهات العربي" The Last Sigh of the Moor، أو في فيلم ميرا نير "سلام بومباي". قل لي كيف أن أي إشارة تشي ولو من بعيد عن إساءة لبقرة تعتبر اليوم تجديفاً منكراً في بومباي. الآن نحن نركن رويداً رويداً لواقع أن تلك المدينة المتنوعة الرائعه قد تحولت من بومباي المتسامحة الى "مومباي" الهندوسية. ولعل التعويل الآن كله على قيادة الهند الجديدة التي يؤهلها رصيدها للتصدي لهذه المسألة. غير أنه قد آن الأوان للبشرية جمعاء لأن تمضي قدماً ولا نترك معالجة هذه المسائل لانفعالات المتطرفين منا، فيستأنفون حملات صليبية جديدة أو يتناوبون على إحراق مساجدهم وكنائسهم وبِيَِعهم ومعابدهم. فما كسبت الانسانية مجدا بالكراهية ولا بنت مقامات بالموت الفظ على اسنة التضاد وفي تاريخ العالم متسع لمقامات الاحزان تلك وايامها السود المخططة بالدماء كأنها ترسم ظلالا من فعل الشيطان على الانسان والارض ! بل آن الأوان لأن لا نترك هذا الأمر المهم للساسة وحدهم، فهو أعقد من أن يفصل فيه باعتبارات السياسة المحضة. عندما كنت في لندن، سعدت بأن أتابع على الهواء مباشرةً خطاب صاحبة الجلالة البريطانية للبرلمان بمجلسيه الذي قدمت فيه الأجندة التشريعية لحكومة جلالتها للسنة المقبلة. وقد استرعى انتباهي أن هناك مشروعا لقانون جديد لمكافحة الرق قدم بغرض فضح هذه الجريمة في إنجلترا بكافة أشكالها والتأكد من عدم إفلات مرتكبيها من العقاب ومواساة ضحاياها. إنه لا يصدق أن نلحظ أن هذه الجريمة الغابرة، والتي تفتخر المملكة المتحدة عن حقٍ بسجلها الحافل في مكافحتها على مستوى العالم على مدى قرون طويلةٍ، لا تزال بحاجة لقانون جديد يتصدى لها في إنجلترا نفسها. إنه بالفعل لأمر "مروع" و"همجي" و"لا يتسق مع عالم اليوم". مع تقديري وشكري،،،