الحافلة تنهض بتثاقل من سبات ليس بعميق..يضغط سائقها الخمسيني على دواسة البنزين، مانحاً ماكينتها العتيقة بضع (بخات) من حياة، قبل ان يلتفت بعصبية غير مبررة اطلاقاً وهو ينادي على كمساريه صاحب العشرة أعوام: (يازفت..مالك مانضفت القزاز دا..؟)..ويهرول الصغير بسرعة حاملاً بيده اليسرى (جردل) مويه، ومتأبطاً باليمنى فوطة قديمة جداً لم تنجح معها كل مستحضرات الصابون على ازالة شيخوختها القذرة، ويقوم بمسح الزجاج بسرعة، بينما تظل عيون السائق ترمقه بإنفعال، قبل ان يطلق صرخة أخرى: (خلاص يااخينا..خربشت القزاز ياخي)..ويتوقف الصغير قبل ان ينادي بصوت مبحوح على الركاب: (عربي..عربي..عربي)..وتمر دقائق سلحفائية قبل ان تمتلئ مقاعد تلك الحافلة التى اكل على هيكلها الدهر وشرب و...(تغوط) كذلك...وبحركة درامية مكررة يدفع السائق بالسيارة بضع دفعات غير منتظمة، موحياً بذلك للركاب انه تحرك، ومانحاً البعض من القادمين من على البعد الامل في اللحاق بالحافلة، والركوب (شماعة)..وبالفعل..ماهي الا دقائق اخرى حتى اكتظت الحافلة عن بكرة (شماعتها)..ويبدأ ذلك الصغير الذى (تعفص) جسده بين اجساد الركاب الضخمة في تحصيل نقود (الفرده). * ارح ياحاجة..ميه جنيه تاني.؟ *اجي..ميه شنو ياجنا..؟ المواصلات دي بي كم. * بي (600) ياحاجة. * كر علينا يايمة..أمس القريبة دي ماكانت بي (500)؟ * اي ياحاجة صح..بس (ناس الحكومة) زادوها. * وووووب علينا..غايتو ياناس الحكومة (........................). يتخطى الكمساري بعد ذلك الحوار النصف الامامي من الحافلة، ويبدأ في تحصيل ركاب المقاعد الخلفية، وقبل ان يفعل، ينبهه أحد الشباب إلى ان يبعد (سفنجته) عن بنطاله الاسود، بعد أن أحالته اقدام ذلك الكمساري، إلى بنطلون اشبه بجلد (حمار الوحش). * (400) تاني يااخوانا. * (400) شنو يازول انت ماواعي ولا شنو.؟ * كيف يعني يا(ابو الشباب). * كدا..وبعدين نحنا (طلبه) ذاتو ياولدنا. *هوي يازول..نحنا ماعندنا طلبه هنا..دا القرار الجديد.!! * يااخينا انت وهم ولاشنو..القرار قال الطلبة حيكونوا بنصف القيمة برضو. * لالالا...الحكومة قالت مافي اي طلبه تاني. * انت يازول بتخوفنا ولا شنو..ولاعشان يعني ناس الحكومة (................................). ويرفض (الطلبة) في المقعد الاخير دفع الزيادة، وبالتالي يتوقف السائق، وتبدأ الاسطوانة اياها (يااخينا ماتتحرك...يازول ماتديهو قروشو...ياجماعة السخانة...ووووب على زح يدك من كراعي ياراجل...ياناس عليكم الله باركوها)..و.... يقترب من الحافلة احد رجال المرور ويبدأ فاصل جديد من التعذيب: * يازول الموقفك في نص الشارع شنو. * لا والله ياجنابو بس زي ماانت شايف في (شكله) و... * انا مالي ومال (الشكلة) أنا علي بالنظااااام..فاهم. * والله ياجنابو ونحنا كمان بنحترم (النظام) و... * يازول ماتكتر كلامك..عندك مخالفة (30) جنيه عشان واقف غلط. * ليه ياخي..انا اصلي وقفت قدام (البيت الابيض). * وكمان بتتلاءم...والله الليلة إلا تشوف (شعاع). في تلك اللحظة تمد تلك الحاجة برأسها من زجاج احدى النوافذ وهي توجه حديثها للشرطي: (ياولدي ماتخلينا نمشي..السخانة دي مافركت رأسنا فرك)..ويتجاهلها العسكري وهو يقوم بملء ايصال تحرير المخالفة..بينما ظل الركاب يهبطون من الحافلة واحداً تلو الآخر، أما اكثر (المفتحين) منهم، فقد انزووا بالكمساري جانباً طالبين استرداد حقهم بعد أن توقفت الحافلة، ووسط كل تلك المشاهد كان هنالك (مجنون) يتابع مايحدث من على البعد، ليرسم إبتسامة شقية على شفتيه وهو يقول في تلذذ: (عفيت منك ياحكومة والله).