يلتئم اليوم المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية تحت هالة من الأضواء الساطعة محلياً ودولياً، لا يعود ذلك للجدل الكثيف الذي سبق انعقاد المؤتمر حول قضية الخلافة على الأمانة العامة، ولا على قضية العلاقة بين الحركة والمؤتمر فحسب، بل أيضاً للتحولات الكبيرة التي شهدتها الساحة الإقليمية وصعدت من خلالها وبعدها الحركات الإسلامية لمواقع الحكم والتأثير الكبير على الحياة السياسية في المنطقة. وكذلك التحولات والتحدِّيات الكبرى التي شهدتها وتشهدها الساحة السودانية على جميع الصُعد. ولئن كان هنالك معنى يتفق عليه الجميع في هذه اللحظة، فهو أنه قد آن أوان التغيير المفضي لإعادة الحيوية للحركة الإسلامية. يتفق على هذا المعنى القيادة الحالية برئاسة الأستاذ علي عثمان محمد طه، كما تُؤمِّن عليه القيادة في الحزب والدولة. وهو مطلب يتوق إليه السواد الأعظم من أعضاء الحركة الذين توافدوا على مؤتمراتها القاعدية حتى فاق عدد الحاضرين فيها نصف المليون عضو. مطلب الشباب الصاعد “ حكاية الصقر مع كراهية العجز الذي كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه في كلِّ حين، هي ذات القصة التي يجب أن تستلهمها الحركة الإسلامية في أوانها هذا، فالتغيير الحق لا يحتمل الإنكار والمكابرة والتبرير “ وأهم من هذا كله هو مطلب الشباب الصاعد في الحركة الإسلامية والذي لم يكتف بالمطالبة بل واجتهد في بذل المبادرات وتنظيم المفاكرات والمذكِّرات بشأن ضرورة التغيير. فمطلب التغيير هو شعار الساعة، ولكن سبيل التغيير الذي يتجاوز النصوص إلى الوقائع ويتجاوز الشكليات إلى المضامين، ليس بالسبيل اليسير، ويذكِّرني بملحمة مجاهدة الصقر لاكتساب القوة والحيوية من جديد بعدما يتقدَّم به العمر فيبلغ من العمر عتياً. تعيش الصقور عشرات السنين بخلاف غالب أمم الطير، وقد تبلغ المئين من العمر. ولا عجب أن تتخذ غالب أمم الأرض الصقر رمزاً وطنياً لنضالها، فهو رمز للقوة وللسرعة وللتحليق العالي. وأهم من هذا، أنه رمز للعزة القعساء، فهو لا يقبل أن يعيش ضعيفاً واهناً أبداً، ولذلك إذا ما تقدَّم العمر بأحد الصقور وبدأ العجز والوهن يدبُّ إلى أظافره ومنقاره وضعُف جناحاه أن يحملاه إلى أعلى الأعالي، فإن الفكرة التي تخاطره ليست آن أوان التقاعد بل هي آن أوان استعادة الحيوية. فإذا صار منقاره القوي الحاد معقوفاً شديد الإنحناء وصارت أظافره تفقد القوة والمرونة وتعجز عن الإمساك بالفرائس، فإنه يخضع لعملية استعادة الحيوية والتي تستغرق خمسة أشهر. تبدأ بأن يحلَّق الصقر إلى قمة جبل عال فيضرب منقاره بالصخر مراراً وتكراراً حتى ينكسر ثم ينتظر أسابيع طويلة حتى ينمو المنقار من جديد، فيذهب إلى الصخرة مرة أخرى ليكسر أظافره أيضاً. ثم ينتظر حتى تنمو له أظافر جديدة ثم يقوم بنتف ريشه كله مستخدماً منقاره الجديد القوي، ثم ينتظر حتى ينمو له ريش جديد. وبعد هذه المكابدة والمرابطة والصبر وبعد أن ينمو له ريش جديد ينطلق الصقر محلِّقاً في السماء بمنقار قوي شديد وبأظافر حادة قاطعة وبريش يحمله إلى الأعالي فيستعيد القوة والحيوية. وحكاية الصقر مع كراهية العجز الذي كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه في كلِّ حين، هي ذات القصة التي يجب أن تستلهمها الحركة الإسلامية في أوانها هذا، فالتغيير الحق لا يحتمل الإنكار والمكابرة والتبرير. والتغيير الحق لا بد أن يستصحب المعاناة والصبر والمثابرة، التغيير الحق هو الذي يستبدل المنقار القديم بمنقار جديد والأظافر الواهية بالأظافر العاتية والريش الملتصق بالريش المنتفش. وهذا لا يعني الإحلال والإبدال فحسب، بل يعني أولاً بعث الحيوية في جسد الحركة جميعاً شيوخها وشبابها. وبقاء الحركة واستمرارها بأجيالها جميعاً حيّة ناشطة فاعلة، ولكنه أيضاً يعني توليد القيادات الجديدة وتمكينها وتصعيدها. وهو مطلب شباب الحركة الإسلامية وهو مطلب لا يُعلي الشباب إلى مواقع المسؤولية فحسب، بل يعيد القوة والحيوية للحركة بأجمعها. ولذلك فلا بد من تحقيق الإجماع على ضرورة التغيير، وعلى وجهته ووسائله لتعود الحركة الإسلامية كالبنيان المرصوص في وجه جميع التحديات لا يضرها من خذلها من صفها أو من خارج الصف. ما هو المطلوب؟ “ إن القيادة على ذلك المستوى القاعدي تحظى بالقبول من الغالبية، إن لم يكن من جميع أعضاء الوحدة الأساس، ذلك لأن الوحدة الأساس في الحي أو القطاع ليست محلاً لتصعيد الأعضاء للمؤتمرات الأعلى فحسب، بل هي ميدان العمل الأساس للحركة الإسلامية “ أول مطلوبات التغيير هو التمكين الكامل للقواعد، والتفعيل الشامل لدور الوحدات الأساس والقطاعات الطلابية والشبابية والنسوية والمهنية. وأول مطلوبات ذلك التمكين والتفعيل هو إعادة تأسيس تلك الوحدات القاعدية على أسس ديمقراطية لا ريب فيها. وهذا يقتضي إنشاء لجنة عليا من مجلس الشورى الجديد لمراجعة نتائج مؤتمرات الأساس والقيادات التي جاءت بها تلك المؤتمرات للتأكُّد في كلِّ حالة يُشتكى فيها من تدخل أو تأثير على الإرادة الحرة. إن القيادة على ذلك المستوى القاعدي تحظى بالقبول من الغالبية، إن لم يكن من جميع أعضاء الوحدة الأساس، ذلك لأن الوحدة الأساس في الحي أو القطاع ليست محلاً لتصعيد الأعضاء للمؤتمرات الأعلى فحسب، بل هي ميدان العمل الأساس للحركة الإسلامية. ولذلك لا بد من إصدار لائحة تنظيمية لترتيب عمل الوحدات الأساس لتكون هي الخلية الحيَّة الناشطة الفاعلة في جسد الحركة. فلئن كان كلُّ جسد يتجدد بتجديد خلاياه، فإن على الحركة الإسلامية أن تعطي الانتباه الأعظم لتجديد وحدات عملها الأساس. فوحدات الأساس هي الريش الذي يرتفع بالجسد الحركي ويحلِّق به إلى أعلى الأعالي. القيادة الطبيعية والقيادة المصنوعة يشتكي الشباب وكثير من القطاعات من تجاهل النظام الأساس السابق لمسألة انتخاب القيادات العليا لهذه القطاعات، وأن العرف المستقر هو أن يتم اختيارها بواسطة الأمناء الأعضاء بالمكتب القيادي. وعلى الرغم من أن هؤلاء الأمناء ينتخبون من مجلس الشورى، إلا أن القطاعات تفضل أن تنتخب أمناءها ثم يصبحون بحكم مواقعهم أعضاء في المكتب القيادي. وهذا مطلب معقول، فأفضل الخيارات هو ما يُعلي من درجة مقبولية القواعد لمن يمثلها، وهذا الأسلوب سيرفع درجة الرضا عن ممثلي القطاعات في المستويات القيادية. لذلك لزم مراجعة بنود الدستور الجديد، إن لم تكن قد تطرَّقت لهذا الأمر كي تفسح السبيل أمام قواعد الجامعات لاختيار أمنائها وأمام قواعد القطاعات لاختيار رؤسائها ثم يكونون من بعد أعضاءً في المستويات الأعلى بمشروعية الاختيار من قواعدهم المباشرة لا بالانتخاب من مجلس الشورى. ويمكن أن يكون لمجلس الشورى حق الاعتماد لتكون له المسؤولية عن كلِّ من يصعد بتفويض منه للمكتب القيادي. انتخاب الأمين العام “ الحركة الإسلامية إن هي أحسنت اختيار قيادتها، فإن التنسيق مع الحزب في شكل قيادة عليا أو اجتماعات بين القيادات كما هو الحال الآن، لن يكون إلا فرقاً لفظياً، بل إن إنشاء هيئة للتنسيق سيُعلي من مقام أمينها العام إن لم يكن من قيادة الحزب أو الدولة وهو ما تريده الأغلبية “ ظلت الحركة الإسلامية تناقش مسألة الصعيد المناسب لانتخاب أمينها العام لسنوات عديدة. وقد جرَّبت انتخابه من مجلس الشورى، كما جرّبت انتخابه من المؤتمر العام، وكان هنالك أيضاً من يقول إن التغيير من كلية مجلس الشورى إلى كلية المؤتمر دافعه هو إعطاء القيادة مساحة للمناورة من خلال العضوية الواسعة للمؤتمر للتأثير على رأي الأعضاء لاختيار أشخاص بأعينهم. فالاتهام إذاً حاضر في كلِّ الأحوال ما لم تتوافر الثقة ويجري تبادلها بين الأعضاء وبين القواعد والقيادات. وقد كان الرأي لدى هذا الطرف عندما عُرض الأمر للمداولة، أن اختيار الأمين العام عبر مجلس الشورى أوفق على الرغم مما قد يبدو من تصغير لكلية الانتخاب من 4000 إلى أربعمائة فقط. ذلك أن مجلس الشورى أقدر على تداول حقيقي وفعَّال حول مناسبة الأشخاص المرشحين للمنصب. هذا إذا استعدنا تقاليدنا القديمة في الجرح والتعديل وهجرنا بعض الصفات السيئة الجديدة التي تنشيء تواطؤات على آصرة قبلية أو جهوية أو عمرية. والدستور المقترح يحيل أمر الاختيار على الشورى، ولكن خيار المؤتمر ينبغي أن يعلو على اختيار مجلس الشورى إذا كان غالب الرأي بخلاف ذلك. وللذين يتحفَّظون على اختيار الأمين العام من قبل المؤتمر، على الرغم من العلم بأن اختياره من الشورى أوفق، لديهم شكوك أن ردَّ الأمر إلى الشورى القصد منه خفض تفويض الأمين العام. وبخاصة عندما يصلون بين هذه المادة ومادة إنشاء القيادة العليا، فكأنهم يريدون القول إن تخفيض تفويض الأمين العام يعني إخضاع الحركة لقيادة الحزب أو الحكومة، وهذه شكوك لا تنهض على أساس متين. ذلك أن اختيار الأمين العام من قبل هيئة منتخبة لا يعني بالضرورة تقليلاً لتفويضه وإلا لصح القول إن الرئيس الأميركي منقوص التفويض لأنه منتخب بواسطة المندوبين وليس الشعب الأميركي مباشرة. أي أنه منتخب لا بقوة أصوات الشعب بل بعدد أصوات المندوبين عن كلِّ ولاية. ثانياً: هنالك فهم غير صحيح لمفهوم القيادة العليا للحركة الإسلامية التي تجمع قيادة الدولة إلى قيادة الحزب إلى قيادة الحركة في هيئة قيادة تنسيقية. فالدستور يقرر استقلالية كلّ صعيد من هذه الأصعدة، والهيئة على الرغم من طبيعتها التنسيقية، إلا إن وجود الأمين العام فيها سيجعل استقلالية الحركة موضع شك. والرد على هذا التشكيك، أن النظام الأساس السابق نص على هيئة تنسيق لم يسمها النظام الأساس القيادة العليا ولا ينبغي أن تكون المشاحة في الاسم، بيد أن فكرة التنسيق وإنشاء جهاز لها كانت حاضرة. ولذلك فإن الحركة الإسلامية إن هي أحسنت اختيار قيادتها، فإن التنسيق مع الحزب في شكل قيادة عليا أو اجتماعات بين القيادات كما هو الحال الآن، لن يكون إلا فرقاً لفظياً، بل إن إنشاء هيئة للتنسيق سيُعلي من مقام أمينها العام إن لم يكن من قيادة الحزب أو الدولة وهو ما تريده الأغلبية. وفي هذه الحال الأفضل أن تكون اتصالاته مع قيادات الحزب والدولة من موقع تنظيمي بدلاً من مجرّد لقاءات فردية لا تشكل إلتزاماً لأحد ولو من الناحية الأدبية، كما هو الشأن في اجتماعات هيئة التنسيق. وللحركة الإسلامية أن تطمئن على استقلالية قرارها من خلال لائحة تصدرها لهذه الهيئة القيادية. فاستقلال الحركة بقرارها فيما يلي اختصاصها أمر جوهري لنجاحها في أداء وظائفها وهي مهام أثقل في ميزان التأثير على اتجاهات المجتمع من عمل حزب وعمل الحكومة. وظائف الحركة الإسلامية “ المساواة وحدها هي صمام الأمان لتأكيد توحد الشعب، لتتوحد إرادته فيقف حائط صدٍّ أمام كل تحدٍ وكل عدوان. وليتحرَّك في تشكيل واحد منتظم لتحقيق آماله في الرفعة والتقدُّم “ لا بد للحركة الإسلامية من تحديد مهمتها الرئيسة في المرحلة المقبلة ومهامها الأخرى المتصلة بالمحور الرئيس لعملها، ولا بد لها من تحديد الأدوار للقيادات والقواعد وللقطاعات والمكاتب والشعب والأسر التنظيمية. ولا بد من وضوح الرؤية لكل المستويات وجلاء الفكرة لجميع الأعضاء والعضوات. ولا خلاف فيما أعلم حول أن وظيفة الحركة الرئيسة هي استنهاض المجتمع لتطوير وعيه بالعقيدة والدعوة والفكر والثقافة، وتمتين بنائه بالتضامن والتكافل، وتعظيم عطائه بالعمل الصالح المثابر في كلِّ المجالات التي تُعلي من شأن العقيدة والوطن. إن شعار المرحلة المقبلة ينبغي أن يكون: "تمكين المجتمع"، وليس من سبيل إلى تمكين المجتمع بغير تطوير معارفه عبر التعليم والإعلام والدعوة والأفكار المتجددة والثقافة المترقية والفنون المبتكرة الرسالية. ولا سبيل إلى تمكين المجتمع دون محاربة الضعف والعجز والكسل بمحاربة الفقر حرباً لا هوادة فيها، ومحاربة البطالة ورفع القدرات وتعزيز الحرفية والمهنية في كلِّ أداء يؤدى أو عمل صالح نافع. ومهمة الحركة لا تنتهي عند تفعيل عضويتها وتعبئتها لتنهض بمهامها، ولكنها تتعدى ذلك إلى إلهام الحزب والحكومة بالتوجهات الكلية وأولويات السياسات والاختيارات، وبخاصة في مجالات التعليم والإعلام والثقافة، ومجالات تمكين المرأة والشباب. وإصلاح الاقتصاد وتوسيع التشغيل ومحاربة البطالة، وإصلاح أنظمة المصارف ومحاربة التهميش التمويلي للفقراء، ومجالات إعداد القوة والمكنة للدفاع عن سيادة البلاد واستقلال قرارها الوطني، وإحياء روح الجهاد في أبنائها لأن عزة الأمة من عزة أبنائها. وكذلك في مجالات تنظيم الحياة الدستورية بما يحقق سيادة الشعب ويعليها فوق كل سلطة وكل طائفة وكل تدخل أجنبي. ويوسِّع من آفاق الحريات المدنية والسياسية. ويحقق المساواة بين المواطنين بلا تفرقة بسبب العرق أو الجهة أو الدين أو المذهب أو الجنس أو النوع أو الفئة العمرية. فالمساواة وحدها هي صمام الأمان لتأكيد توحد الشعب، لتتوحد إرادته فيقف حائط صدٍّ أمام كل تحدٍ وكل عدوان. وليتحرَّك في تشكيل واحد منتظم لتحقيق آماله في الرفعة والتقدُّم.