يوجعنى قلبى حد النزف كلما استمعت لأغنية “مهند ونور” وهى أغنية الموسم بلا منازع وسط الشباب والشابات ، ومايجعل قلبى يدمى حقاً هو مشهد الشابات متقافزات يرقصن ابتهاجاً ويرددن مقاطع الأغنية مع الفنان .. وكثيراً ما أراهن يضعن هذه الأغنية كنغمة رنين فى تلفوناتهن فيأخذنى العجب من قدرة ثقافتنا على تطويع النساء وتدجينهن حد التنويم. فمجمل الأغنية ماهى الا تعبير مباشر عن المناخ المؤسف الذى تدهورت اليه العلاقات الانسانية بمجتمعنا وبالأخص العلاقات العاطفية وهى علاقات تشكل مستقبل السودان بلاشك فأسر الغد هم أحبة اليوم. الأغنية تلخص بفظاظة وضع النساء الدونى وسط الشباب فكل كلماتها تنضح بالتحقير المباشر والشتائم المهينة اذ تفتتح الاغنية باستهزاء فج بمشاعر رومانسية لدى الحبيبة اذ تقول:” لوقايلة ريدتنا زى مهند ونور انتى عيانة وشوفى ليك دكتور”وعيانة بلغة الشباب لاترمز فقط للمرض البدنى بل تستخدم للوصم بالجنون أو المرض النفسى. وترى الأغنية ان الحبيبة بمحاولتها الرومانسية فاقدة لعقلها وتحاول التشبه بنجوم المسلسل التركى”مهند ونور” وأنها قد وصلت مرحلة من المرض تستدعى الذهاب لاستشارة الطبيبب! غض النظر عن رأينا بالمسلسل الا اننا نتفهم ان الانسحاب لعالم الأفلام والعيش فى مناخاتها الخيالية دليل مادى على فشل المناخ الطبيعى وعدم قدرته على اغناء الوجدان، ورغم موقفنا من اختيار مثل هذه الخيارات البسيطة الا ان ذلك الموقف لايلغى حرية الرجال فى مثل هذا الهروب وحقهم في التمتع به دون أن تكون هناك أدنى إشارة سلبية بحقهم، والدليل الحشود الغفيرة من الرجال بكل صالات السينما فى السودان والتى أستبعدت وانسحبت منها النساء لصالح الآلاف من الرجال فاغرى الأفواه أمام قفزات البطل الأسطورية وضرباته القاتلة وانقاذه لحبيبات يبتلع لهن الجمهور ريقه بصوت مسموع . وظلننا نرقب التشبه بالابطال فى الزى والحركات وتصفيفات الشعر منذ زمان ” الأفرو” الى” كوجاك” حتى جوردان ورلاندو… اذن عالم الخيال الفج والساذج ببلادنا عالم يتربع على عرشه رجال كثيرون ومنذ وقت طويل .. النساء لسن ملكات الفضيلة بهذه البلاد ولكنهن الأكثر تضرراً من عدم استقرار بلادنا السياسى والاقتصادى ويقدمن نماذجاً رفيعة فى التضحية والايثار لذا من غير المنصف ان يتم تحقيرهن بهذه الطريقة غير اللائقة . ويعقب الوصم بالجنون تهديد بالهجر وهو تهديد يرى كاتب الأغنية انه يمتلكه كحق فيقول لها “راعى لى انى ماشفت واحدة سواك” وهو أمر طبيعى فى ظل مجتمع يعتمد التفاسير المنكفئة للاسلام فيرى ان التعدد حق للرجل، وتعامل فيه المرأة بدونية اذ حياتها – بنظر هذه الثقافة – خالية دون معنى ولذا التهديد بالانفصال أو التعدد هو اسوأ عقاب يقع عليها اذ يجب ان تكون ممتنة لوفاء الرجل الذى يعتبر بالمقابل وفاءها بداهة .. وكان يجب ان يبرز الارث الذكورى الذى يلخص المرأة كفاقدة عقل فيقول لها: ” أعقلى شوية وبطلى الأوهام ناس مهند ونور قصة فى الأحلام ..” ومن المقطوع به فى الثقافة السائدة ان النساء غير عاقلات ويحتجن دوماً لنصيحة الرجل العاقل !!! ويواصل نصائحه بقوله: ” عيشى فى الواقع عاينى لى قدام ناس مهند ونور مسلسلات وأفلام..:والمتأمل فى الواقع السودانى يرى بوضوح مجافاة هذه النصيحة لواقع الفتيات السودانيات اللاتى سمتهن العامة الآن التعاطى بايجابية مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية فهن الأكثر تفوقاً أكاديمياً والمساهمات فى تسيير الأسر بل كثيراً مايكن معيلات فى ظل اقتصاد متوحش ابتلع الطبقة الوسطى ووضع البلاد تحت خط الفقر . المحزن فى هذه الاغنية وشبيهاتها انها تواجهنا بدمامة التعقيدات النفسية التى انحشر فيها جيل كامل من شبابنا وشاباتنا فالرغبة العالية فى ايذاء الآخر والتشفى منه هى رغبات عدوانية مكبوتة فعندما يتغنى المغنى قائلاً:” :” هسى بالذمة انتى تشبهى نور لالالا شوفى ليك دكتور” الشباب الذين يلوحون بالنفى بسباباتهم مرددين خلف المغنى لالالا هم متجرعين لمرارات تجعلهم يرغبون فى التشفى بأقرب الناس اليهم حبيباتهم . والمحزن أكثر هو الموقف النفسى الغريب للشابات اللاتى يرغبن فى ايذاء أنفسهن فيجدن ان التندر والسخرية بهن أمر طبيعى بل يرقصن طرباً على انغامه.!! لقد جاء الوقت الذى يتوجب فيه ان نفكر فى الأسباب الحقيقية خلف هذه المشاعر ونتسلح بالشجاعة الكافية لتشريح قيمنا ونمط حياتنا الذى يصدر مثل هذه المشاعر المتضاربة والعدوانية لشبابنا. ان الأطفال الذين يتربون على عدم الحب فى حياتهم اليومية ولايشاهدون والديهم متحابين لن يمتلكوا القدرة على التعبير عن مشاعرهم .والالتواء فى التعبير والعداء المستبطن يجعل الأطفال يمارسون نفس السبل .. لذا فأغنيات هذه الاجيال تعبر بشكل فج عن الأزمة .. انها “ريدتنا” كما يردد مقطع ثابت بالأغنية .. فهى فعلا ” ريدتنا” وليست “ريدتهم” نحن من صنع هذا الجفاء والعنف المكبوت طريقتنا الخاطئة فى “الريدة” وياليتنا نقر بذلك بدلاً عن الحلول السهلة مثل الادعاء بأن كل أزمة شبابنا بسبب العولمة والفضائيات. هادية حسب الله [email protected]