استبدَّ بِيَ القهرُ... وشعرتُ أنني في الدَّرْكِ الأسفلِ من الاختناق... لقدْ غفتْ روحُ المسؤوليةِ في نُفُوسِ بعضِنا وربما ارتفع صوتُ شخيرِها عالياً... فذلك موظف مرموق بإحدى شركات الطيران الشهيرة ، ذهبتُ إليه لإصدارِ بطاقةِ سفرٍ إلى دولةٍ خليجية وإجراءِ حجزٍ بتاريخٍ مُحدد، أنهيتُ مهمتِي وعُدتُ لمُمارسةِ أعمالي اليومية، وفي نهاية اليوم بعد أن أَنهكَتِ الساعاتُ العِجاف قوةَ جسدي وعقلي ألقيتُ بنفسي على السريرِ أتوقُ لنومٍ هادئ، فإذ بضجةٍ في رأسي لا تستكينُ تحرِّضُنِي على قراءة التذكرة، وبالفعل وجدتُ خطأ في تاريخِ الحجز! تلفَّحْتُ بغطائي بعد أن تَكوثرَ النوم في أحداقي وقررت العودةَ لمكتب شركة الطيران في اليوم التالي صباحاً، وبابتسامة وإشراقة أمل، راجعتُ الموظَّف، وبعد بُرهةِ تأمُّلٍ قال ببرود: تعديلُ الحجزِ يتطلبُ دفعَ غرامةٍ مالية، قلت: ولكنَّ الخطأَ منك فقد قدمته لك مكتوبا في ورقةٍ وضَعتُها أمامك! قال: لا يعرف نظام الحاسب الآلي مصدر الخطأ.. المهمُّ وباختصار؛ إما أن تسافري على هذا الحجز، وإما أن تدفعي الغرامة لتغييره! نظرتُ إليه وأنا أدعو الله أن يُلهمني جُمْلةً أتوكأ عليها وأهشُّ بها على ألمي قلت: الأجدرُ بِكَ أن تعتذر عنِ الخطأِ أولاً ثم نناقشُ مسألةَ الغرامة؛ قال: الاعتذارُ لن يحل المشكلة.. كوني عملية، ادفعي الغرامة لينتهي هذا السيناريو! رباه إني بحاجةٍ إلى ضلعٍ آوي إليه ليعْصِمَنِي وإنسانيتي من الغرقِ في جوف موظفٍ يجهلُ أبجدية التعاملِ مع زبونٍ ويسئُ لسُمعة شركةِ طيرانٍ عريقة. ماذا كان سيخسر لو قدم لي الاعتذار وتنازل عن عجرفته وحاول يناقش معي أساليب وطرقاً لحل المشكلة؟! فمن طبيعةِ البشرِ الخطأ، ويتميزُ العقلاءُ بالعودة للصوابِ ويرتقي الإنسانُ بقدرته على الاعتذارِ لمن اخطأ بحقِّه وإن كان أصغر منه عمراً أو مكانة، والاعتذار يمثل مظهرا حضاريا وهو انعكاس لمستوى النضج والثقة في النفس والمجتمع. ورغم سمات الشجاعةُ التي يتصف بها مُجتمعنا ورغم ثقافتنا الإسلاميةِ التي تؤكِّدُ على التوبةِ إلا أنَّ أغلبنا غابت ثقافةُ الاعتذارِ عن ممارساتِه الاجتماعيةِ ومضامين علاقاتِه حيث يعتبرها البعضُ شكلاً من أشكالِ الضعف. وكم تمر علينا لحظات نتذكرُ مواقفَ أخطأنا فيها بحق عزيزٍ أو قريبٍ، وتسبَّبَتْ في جفاءٍ وقطيعةٍ بيننا، فيما لو كان هناك اعتذارٌ صادقٌ وفي وقتٍ مناسبٍ لعادتِ العلاقةُ وأواصرُ الوُد والحُبّ. نحتاج كثيرا لنشر ثقافة الاعتذار فهي مستوى من مستويات الشجاعة الأدبية وهي سلوكُ النُّبلاء، وتمثل حصانةً قويةً للابتعادِ عن الخطأِ واللامبالاةِ بمشاعرِ الآخرين. فكن قدوة!.... اعتذر لطفلك أو الخادمة أو السائق، لا تكتَفِ بالاعتذار لرئيسك أو لمن يفوقك قوة، نحن في حاجة لثقافة الاعتذار وِفْق احترامِ الآخر وليس الخوفُ من الآخر!