كنت خلال إقامتي في بريطانيا أتضايق كلما رأيت عيالا سودانيين لا يعرفون من اللغة العربية كثير شيء، وكان يضايقني أكثر كون آباء وأمهات أمثال هؤلاء يحسون بالزهو لأن عيالهم يرطنون بتلك اللغة بكفاءة عالية.. مع ان اللغة مثل فيروس الإنفلونزا تلصق بك إذا تعرضت لها كثيرا، بدليل ان هناك ملايين الأميين في العالم يتكلمون الإنجليزية فقط لمجرد أنهم يعيشون في أوساط من ينطقون بها.. طبعا ليس من السهل أن تجعل عيالك يتقنون لغتهم الأم بينما هم يدرسون ويمارسون فعاليات حياتهم في وسط يتكلم لغة أخرى، ولكن لو أصر الوالدان على ان تكون العربية لغة التخاطب في البيت فمن المؤكد ان عيالهم سيجيدون التحدث بها حتى لو كانوا يعيشون في القطب الشمالي.. كنا في لندن في منزل الصديق مقداد حامد الرشيد عندما أتى شقيقه مروان من لانكستر التي كان يحضر للماجستير في اللغة الانجليزية في جامعتها.. فقال له مقداد: ليه ما تدرس حاجة تنفعك وتنفع البلد.. شنو يعني ترجع بلبل في اللغة الانجليزية وتعلمها للطلاب.. أه الانجليز بيتكلموا انجليزي منذ كذا قرن وحالهم ماشي من سيء إلى أسوأ... طبعا يحز ذلك في نفسي أن عيالي لا يتكلمون اللغة النوبية، فتعلم لغة إضافية يكون على الدوام “إضافة” ثقافية واجتماعية، ولكن عذري هو ان زوجتي لا تعرف - لحسن حظي- شيئا من تلك اللغة.. ولكن بعض أبناء وبنات إخوتي ملمون بتلك اللغة إلماما طيبا رغم أنهم لم يعيشوا قط في شمال السودان، لأن آباءهم وأمهاتهم يتكلمونها في البيت ويخاطبونهم بها، وتجدهم سعداء وهم يستخدمون مفردات مثل “جنده” و”كوماري” و”مسوب جانيقو” وهي مفردات شتائم من العيار الخفيف وتقال عادة من باب المداعبة. سعدت كثيرا خلال وجودي في الولاياتالمتحدة لأن عيال كل الأسر السودانية التي زرتها كانوا قادرين على التعبير عن أنفسهم بالعربية بارتياح شديد، بل وجدت بنات أخينا سيف عبد العزيز في واشنطن لا يتحدثن العربية فقط بل شغوفات بالغناء السوداني، وعندما وضعت والدتهن السيدة الفضلى سكينة أمامنا الطعام، وفي قلب المائدة تلال من القراريص، لاحظت أن “رفاء” لا تمد يدها الى تلك التلال فسألتها: ألا تحبين القراصة؟ فكان ردها إنها تفضل عليها الكسرة .. هذه أشياء قد تبدو بسيطة لمن يعيش في بيئة القراصة والكسرة، ولكن أن تجد شخصا يعيش في بيئة البيرقر والبيتزا والناتشو والكلب الحار (هوت دوق) متعلقا بأكلات وطنه الأم، فذاك مدعاة للسرور، لأنه يمثل نوعا من الارتباط بالجذور.. بالمناسبة إلى يومنا هذا أعاف الهوت دوق لأن اسمه يوحي لي بأنه ارتبط تاريخيا بشكل او بآخر بلحم الكلب (دوق) وإلا فما سر هذه التسمية السخيفة؟ كانت مفاجأة المائدة الأخرى في بيت سيف وزوجته سكينة، السمك البلطي.. نعم سمكنا البلطي ولكنهم اشتروه من واشنطن.. نحن في الخليج نشتري سمك النيل البلطي المستورد من تايلند.. ولو شدينا حيلنا قليلا و”بطلنا نشتغل بالفارغة” وتخلينا عن وهم أننا دولة نفطية، لكان البلطي في بحيرة السد العالي قد عاد علينا بمئات الملايين.. يعني ملاليم بلغة الاقتصاد كافية لإعادة إعمار حلفا الأصلية لتكون مركزا ليس فقط لصيد وتصدير الأسماك، بل أيضا للزراعة لخصوبة الأرض بعد ان تنحسر مياه السد في موسم الجفاف.. ولأن الزراعة شغلانة تخص الترابلة ولا تليق بمصدري النفط فقد صارت أسواق العالم تعج بالكركديه غير السوداني، المعبأ بطريقة صحية وعلمية ولا يكاد مطبخ مؤسسة أو إدارة في منطقة الخليج مثلا خاليا من الكركديه، وكان السودان حتى منتصف ثمانيات القرن الماضي المصدر الأول للكركديه. في محلات وول مارت وهي أكبر سلسلة متاجر للسلع الاستهلاكية في أمريكا والعالم بأسره، وجدت أن أغلى أنواع الملايات والمفارش وبشاكير الحمام كتب عليها “مصنوعة من القطن المصري”، وكان قطن السودان أبو فتلة طويلة لنحو نصف قرن مفخرة مصانع النسيج الانجليزية.. بلاش القطن والكركديه والبلطي: لماذا لا يقترن النيل في ذهن الآسيويين والأوربيين والأمريكان والشيشان إلا بمصر مع أن نصيبنا من طوله وعرضه ضعف نصيب مصر؟ لأنه في القاهرة “قيمة وسيما” بينما هو في عاصمتنا محاصر بالكافتيريات التي لا يدخلها إلا ذوو اليسار، وما خلا من الكافتيريات إما “منطقة أمنية محظورة” أو مقالب للنفايات.