أسعدني طلب زميلنا العزير الطيب علي السلاوي تحرير ونشر كتيبه عن مدرسة حنتوب الثانوية التي صارت الآن بعض جامعة الجزيرة. والكتاب عن سنواته فيها طالباً بين 1949 و1952. ولم تكن تلك خاتمة عهده بها. فعاد لها معلماً بها لاحقاً. ثم صارت بعض مسؤولياته كوكيل لوزارة التربية والتعليم قبل أن ينقل مستشاراً ثقافياً بسفارتنا بواشنطون. علاوة على احتكاكه بأجيال من الحنتوبيين حين خدم في السلك الإداري بجامعة الخرطوم لسنوات منتدباً من التربية والتعليم. خطرت لي فكرة كتابة هذه الذكريات عن حنتوب الجميلة في أواخر عام 2002 وأنا أقيم في حاضرة الولاياتالمتحدةالأمريكية عند انقضاء نصف قرن كامل من الزمان منذ تخرجي في ذلك الصرح الكبير في ديسمبر 1952. حال بعدي هذا عن الوطن دون الحصول على معلومات مفصلة عن القرية الأ أني عوضت عن ذلك باستماعي إلى ما يرويه عن حنتوب نفر من أبناء القرية جاء بعضهم للولايات المتحدة للدراسة، وجاء آخرون يطلبون الأقامة لاجئين، أو في زيارات متعددة الأغراض. ونعرض لاصل اسم حنتوب وتأويلاته المختلفة في حلقتنا القادمة. فقد جاءني من أحدهم عبر محادثة هاتفية أن ما يذكره عن اسم القرية "حنتوب" أنه نتج عن تداخل لغوى بين كلمتين ظلتا متداولتين عند أهل المنطقة ردحاً من الزمان وإن اختلف الرأي حول الأسم . الأ أن ما رجح عند الناس من أحاديث الثقاة من كبار السن من الرواة أن أحد النازحين إلى القرية في سوابق القرون وسوالف الأزمان كان مسيحياً ويدعى "حنّا". ولطيبة نفسه وحسن معشره عزّ على نفوس من حوله من أهل القرية أن يظل ذلك الرجل الطيب على غير دين الأسلام حيث كان الرجل يشاركهم الحياة سراءها وضراءها. ولم يبطره ما كان عليه من سعة في الرزق ليترفع عن معاشرة أهل القرية بالحسنى، ولم يفكر في النزوح عنها وهجران أهلها . فظل كلما التقى "حنّا" نفراً من أهل القرية يحدثونه عن الأسلام ويبيّنون له فضائله، يحدوهم أمل اعتناقه في يوم من الأيام،ويدعونه لتوبة نصوحا.كان أحياناً يجادلهم بالحسنى ويسائلهم إن كانوا قد لمسوا منه سوء معاملة أو فجوراً وهو على غير دينهم، ويعدهم كل حين بالتوبة ويقول لهم: (اصبروا على "حنا" شويه بيجي يوم تلقوا حنا تايب . .. ما تزعلوا حنا "حيتوب"... بيجى يوم حنا "حيتوب"). وظل الناس يتدالون لفظة "حنا حيتوب" ويتناقلونها زمانا عند الأشارة إلى قرية "حنا حيتوب" حتى صارت القرية تعرف باسم "حلّة حنا حيتوب"، و إلى أن اختصرت الكلمتان وامتزجت "نون" حنا بتوبته الموعودة متمثلة فى كلمة "حيتوب" ليصبح اسم "حنتوب" وهو الأسم الذى عرفت به تلك البقعة الطاهرة من شرق النيل الأزرق قبالة مدينة ود مدني، حاضرة مديرية "النيل الأزرق" التي كانت تمتد على مساحة واسعة من أرض السودان، من مدينة الكاملين شمالأ إلى أقاصي حدود ولاية النيل الأزرق الحالية جنوباً. و في احشائها تكمن ولاية النيل الأبيض بكاملها. كما جاء في الخبر أن القرية أخذت اسمها "حنتوب" من اسم نبات الحنتوب الذي كان يكثر وجوده فى المنطقة . وهناك روايات أُخر متعددة لعل نفراً من أبناء حنتوب، الذين نبغ عدد كبير منهم وبزغ نجمهم علوماً وتجارب وخبرات، قد واصلوا جهود من سبقوهم في توثيق تاريخ القرية الفاضلة وأهليها الغر الميامين . ومما اتصل باسم حنتوب هناك طرفة تناقلها اساتذة كلية غردون وطلابها في منتصف أربعينات القرن العشرين عندما قررت الحكومة البريطانية آنذاك انشاء مدرستي حنتوب ووادي سيدنا ونقل بعض معلمي كلية غردون إلى إحدى الصرحين التعليميين. وكان نصيب الأستاذ إسماعيل الأزهرى الانتقال رئيساً لقسم الرياضيات في حنتوب. وكان نجم الأستاذ أزهري بدا يرتفع في سماوات المد الوطني ومناهضة الأستعمار بعد أن تم انتخابه رئيساً لمؤتمر الخريجين. فرأى الأستاذ وآخرون أن في نقله خارج العاصمة إبعاداً له من مركز الثقل الجماهيري فى عاصمة البلاد وحداً لنشاطه السياسي كرئيس للمؤتمر الذى كان نشاطه يزداد ويتعاظم في كل حين. فقال الأزهري قولته الشهيرة :" حنتوب .. حنتوب .. برضو موش حنتوب". ومتروك لفطنة القارئ ما عناه الزعيم الأزهري بتلك العبارة التي طافت الأفاق وأصبحت من بين أدبيات ذلك الزمان. وبدلا من تنفيذ النقل إلى حنتوب قدم الأستاذ ازهري استقالته من خدمة الحكومة وتفرغ لقيادة العمل السياسي في البلاد كما هو معلوم. أما فيما يتعلق بالتساؤل الأخر المتصل بظروف وملابسات قيام المدرسة فى موقعها الحالي فذاك حديث يطول. المرحوم الوالد الكريم الشيخ أبوزيد أحمد – عليه فيض من رحمة الله في أعلى عليين بين الشهداء والصديقين - يعتبر من حكماء أهل السودان وعظمائهم قاطبة . كان من كبار أعيان مدينة ود مدني حيث عاش فيها طوال حياته العامرة بكل ما هو خيّر وكريم . أنشأ العديد من المدارس ودور العبادة على نفقته الخاصة ، فقد كان من الذين يتقدمون الصفوف لكل أعمال البر والخير والأحسان في المدينة. وكان على الدوام من الخارجين عن أنفسهم الواهبينها للآخرين. كان ممن لا تعلم يسراه ما تقدمه يمناه. كان ذلك ديدنه إلى أواخر أيامه. كانت ذاكرته تختزن الوفير من المعلومات عن تاريخ ود مدني وأهلها وأنسابهم وما مر بها مما دق وعظم من أحداث الزمان. كان- رحمه الله- فريداً في طريقة تعامله مع الناس في ذكاء وقاد وفى قدر من روح الفكاهة يستتر تحت صرامة تبدو وشيء من عبوس يبين على وجهه. سعدت كثيرا بزمالة أبنائه في مراحل دراستي المختلفة في مدينة ود مدني. وكنت أراه بين كوكبة علية القوم من رجال ود مدني أعضاء لجنة المدرسة الأهلية الوسطى أثناء زياراتهم التفقدية للمدرسة حينا بعد حين .زادت صلتي بالرجل الكبير بعدما أتاح لي الفرصة للتعرف على شخصيته الفذة في لاحق من الزمان عندما عدت الى المدينة الباسلة معلماً ثم إدارياً من بعد في مدارسها الثانوية بنين وبنات. من بعد غياب عن مدارس مدينة ود مدني قارب العشر سنوات، جئت حنتوب لأشغل وظيفة وكيل المدرسة، نائب الناظر. وذات صباح باكر أغر في منتصف شهر أغسطس عام 1970 سعدت بلقاء الشيخ الجليل (أبوزيد) على مقربة من مكتبه في سوق المدينة. كان لقاءً حارّاً فاض بترحاب بالغ منه. ومما أثار دهشتي في ذلك اللقاء أني وجدت الرجل على علم بأمر انتقالي إلى حنتوب قادماً إليها من مدرسة البنات الثانوية بأم درمان. وزدات المفاجأة عندما سألني عن أمر "اليوبيل الفضي" الذى كان نفر من خريجي حنتوب يتداولون فكرة اقامته في بداية العام القادم 1971، وتناول حديثه الشجي أصل كلمة "يوبيل" وإن كانت هي من الدخيل على اللغة العربية، أو كانت لها جذور عبرية. وتواصل الحديث إلى أن فاجأني بسؤال لم أكن أملك قدراً وافياً من المعلومات للإجابة عنه. كان نص سؤاله: "مدرستكم العاوزين تحتفلوا بعيد ميلادها هل فى واحد منكم عارف قامت في محلها دا كيف؟ كيف تحتفلوا بشيء إنتو ما عارفين أساسو؟" فأُسقط في يديّ. فما كان لديّ عن الأمر الأ النذر اليسير جداً من المعلومات، مما جعلني استجيب لمبادرته للبقاء معه بعض الوقت أو العودة إليه مرة أخرى إن كانت لديّ الرغبة في معرفة خبر قيام الصرح التعليمي في تلك البقعة المباركة. وأضاف قائلاً: "إذا كنت عايز تعرف المدرسة دي جات في محلها كيف أحسن تقعد.. . أحسن تكون عارف وإنت أصبحت مسؤول، الأعمار بيد الله والدنيا ما معروفة كان لي أو ليك." فآثرت البقاء معه والعودة إلى حنتوب لاحقا. وللحقيقة فان ما رواه الشيخ أبوزيد في ذلك الصباح سعدت بسماعه مرة أخرى على لسان معلم الأجيال المرحوم صالح بحيرى فى عام 1974 عندما عدت إلى ود مدني ناظراً لمدرستها الثانوية للبنات بعد انقضاء أربع سنوات من حديث المرحوم شيخ أبوزيد في ذلك الصباح الميمون.