بسم الله الرحمن الرحيم الإنسان كائن متدين بطبيعته وفطرته، فلقد عرفت البشرية منذ فجرها صورا مختلفة من الحياة الدينية وظل الدين حاضرا في كل مراحل تطور الانسانية، ملهما وفاعلا في توجيه الإجتماع البشري رغم تغير حجم الدور الذي يلعبه من فترة لأخرى. وفي التاريخ الإسلامي كان الاستناد الى النصوص الدينية ديدنا لكل من أراد تقوية موقفه في كل شأن ليس فقط بتأويل لايحتمله سياق النص ولكن بوضع نصوص جديدة واسنادها للرسول (ص) حتى كثر الوضع عن رسول الله فقد ورد في صحيح مسلم أنه جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابن عباس لايأذن لحديثه ولاينظر إليه فقال يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع فقال ابن عباس إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذل وللمن أخذ من الناس إلا ما نعرف. وفي الزمن الحاضر تقع مجتمعاتنا ضحية لفريقين يتجاذبانها ،ينادي أحدهما بإبعاد الدين عن الحياة العامة متأثرا بنجاح نسبي للعلمانية في الغرب ،وفي الجانب الآخر نجد فريقا يوظف الدين لمصلحة تيار سياسي مستخدما الدين ونصوصه لحسم الصراع السياسي لصالحه وإضفاء الشرعية على مواقفه السياسية. وبين هذا وذاك يضيع الدين كموجه للحياة العامة ومصدر لقيم الهداية ففي الحالة الأولى يبعد الدين بطريقة مباشرة وفي الحالة الثانية يبعد بطريقة غير مباشرة حين يصبح ألعوبة في يد فئة معينة تفقده قدسيته وإحترامه بين الناس ،وهذه هزيمة لفكرة العبادة نفسها فما العبادة الا نوع من الاحترام الكبير لكائن يساعد عقولنا على تمثل غاية كبرى لوجودنا حتى لايتحول وجودنا اليومي لآلة كسولة بلاهدف يفتح لها الأفق نحو معنى ما للمستقبل وفي هذا يقول كانط(ان حاجة الانسان لاحترام أعظم من كل انواع الاحترام الأخرى هو الذي يجعله يفكر من نفسه من جعل شيء ماموضوع للعبادة) (الدين في حدود مجرد العقل).ففي اللحظة التي يفقد الدين فيها هيبته وسط الناس يصبح دوره ضعيفا بدلا من أن يتعبد الله بتطبيقه. وبينما يجد التيار الاول مقاومة ورفض من قبل الشعوب المسلمة ذلك أن ظروف نشأة العلمانية والحاجة إليها تختلف عن الظروف الموجودة في العالم الاسلامي مما جعل المناداة بها فعل خارج سياق اللحظة التاريخية إلا أن التوظيف السياسي للدين قد ظل داء تعاني الأمة منه منذ وفاة النبي (ص). ولأن أزمة الحكم في الامة أزمة ضاربة الجذور في التاريخ وممتدة في شعاب الزمان ولأن الدين ظل هو الباعث الرئيسي والمحرك للأمة أفرادا وجماعات ،كان توظيف الدين حاضرا ولم يغب لحظة عن المشهد السياسي في صورة لتحالف سمي بتحالف السيف والقلم أو السلطان والعلماء وظل هذا التحالف يعلو صوته وتضح صورته في أوقات الصراع السياسي وفي كل لحظة تاريخية تسبق عهدا جديدا من تاريخ أمتنا. إن الملاحظ لكل أشكال وانواع الحكم التي تعاقبت على الأمة بغض النظر عن قربها أو بعدها من قيم الدين وبغض النظر عن الشعار الذي رفعته إسلاميا كان او غيره نجد أنه مامن حاكم إلا وكان له غطاءا دينيا يستند عليه ويبرر له افعاله بالحق أو الباطل.ولعل اكثر الأمثلة المعاصرة وضوحا لذلك التحالف هو ماحدث في بعض دول الربيع العربي من تناقض في مواقف شخصيات ذات وزن في الساحة الدعوية ،فكيف لشخصية واحدة أن تبدل موقفها لا استنادا لقاعدة تغير الفتوى بتبدل الزمان والمكان والحال ولكن استنادا لمصلحة سياسية ضيقة يراد لها أن تصطبغ بصبغة الدين وتلبس جلبابه. إن من قوانين العلم الأولى قانون عدم التناقض،ولكن قوانين علماء السلطان تستطيع ان تجمع بين الشيء ونفيه استنادا على نصوص جزئية مقتطعة من سياقها أولا على طريقة (ويل للمصلين) ثم تفهم بعيدة من قيم الدين الكلية لتوافق أهواء قائليها،فقد شهدنا من يعارض قيام الثورات ثم هو نفسه من يحث عليها بعد أن تأكد من نجاحها في أبهى صور المتاجرة بالدين والاستهزاء به وبأحكامه. إن ما حدث من تكثيف للايدولوجيا في الخطاب السياسي في دول الربيع العربي والتي تشهد حراكا سياسيا متصاعدا يدل على فاعلية الدين ودوره في الشعوب المسلمة وفشل محاولات استبعاده، ولكن في نفس الوقت هو باعث لحماية الدين من أن يصبح مطية لمصالح ضيقة للبعض لاتخدم المصلحة العامة ولا القيم الكلية للدين من إقامة العدل والشورى واتاحة الحريات وبسط الحقوق وفي هذا يجب التفريق بين :- الدين وفهم الدين: الدين هداية الهية كاملة وفهمه كسب بشر يناقص فلايجوز لفرد من الأمة مهما بلغت مكانته أن يدعي التطابق بين فهمه وبين الحقيقة الدينية فلا عصمة لأحد بعد رسول الله وإن الفهم لنصوص الدين هو اجتهاد قد يصيب المرء فيه ويخطئ وبهذا يدعوا النص الى الاجتهاد في فهمه فإن مقولة لا إجتهاد مع النص تعني النص قطعيا لدلالة غير القابل للتاويل، وهذا النصوص نفسها رغم قلتها يجب أن تفهم في سياقها الزماني والمكاني ومساقها الثقافي وهي ايضا عملية اجتهادية. ما فيه نص وما هو مساحة واسعة للاجتهاد: مافيه نص من امور السياسة حيز ضيق جدا والباقي فضاء واسع للاجتهاد البشري والابداع العقلي ،ولايحق لأي انسان أن يدعي عصمة الرأي فيها او اتهام الطرف الآخر بمعاداة الدين ورميه بالطرد من رحمة الله ،يقول ابن تيمية في الفتاوي (لكن لايكلف الله نفسا الا وسعها ،فاذا اتقى العبد الله ما استطاع أجره الله على ذلك ،وغفر له خطاه ومن كان هكذا :لن يكون لأحد أن يذمه ولايعيبه ولايعاقبه) ثم ذكر أيضا في موضع آخر (وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على اقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم) .وتقع المواقف السياسية في دائرة (أنتم اعلم بشؤون دنياكم ) والاستناد فيها على تحقيق المصلحة لذلك ينقل ابن القيم عن ابن عقيل(السياسة ماكان فعلا يحبث يكون الناس أقرب الى الإصلاح وأبعد عن الفساد،وإن لم يشرعه الرسول (ص)ولانزل به وحي). بين النص وتنزيله على الواقع: تتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد وقد كتب ابن القيم فصلا بهذا العنوان قال فيه (هذا فصل عظيم النفع جدا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة ،أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه مايعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لاتأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالحكلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها التأويل) اعلام الموقعين. فالنص قد يكون كليا تتنزل أحكامه حسب الوقائع ويكون الإجتهاد في تنزيل النص على الواقع وهو جهد بشري تختلف فيه الآراء ،وقد يكون النص جزئيا مرتبطا بمصلحة معينة وبعلة يدور الحكم معها وجودا وعدما مثل حادثة سهم المؤلفة قلوبهم وموقف سيدنا عمر منها فلاينبغي الثبات في موضع المرونة ولا المرونة في موضع الثبات ومن يفعل ذلك يقول عنهم ابن القيم أنهم (فسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له ،مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ،ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ،ولعمر الله،إنها لم تناف ماجاء به الرسول ،وإن نفت مافهموه هم من شريعته باجتهادهم،زالذي اوجب لهم ذلك نوع من التقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر) بين الدين ورجال الدين: لارجال دين في الاسلام وإنما علماء يجتهدون كل بكسبه دون قدسية لأقوالهم، فالقدسية للقيم والمبادئ لا الأشخاصو الذوات كما أن إبداء الرأي في قضايا الدين هو حق مشاع لكل مسلم فينظر في محتوى اجتهاده دون ترك الرسالة ونقد الرسول، ومن بعد ذلك يثبت الاجتهاد الموافق لروح الدين والعقل معا فلا واسطة بين الله وعباده وانما ينحصر دور العلماء في مساعدة الناس على الفهم دون وصاية وحجر ودون عصمة لأقوالهم. ان الامة تحتاج وهي في مرحلة صحوتها الى ترشيد خطابها الديني ليواكب حراكها السياسي ليكون الدين عاملا رئيسيا في عملية النهضة المرجوة لا عائقا في سبيل تحررها من الاستبداد السياسي و التخلف الفكري د/ محمد زيدان عبده ديسمبر 2013