نظرياً لا يمكن أبداً أن نتصور وقوف الولاياتالمتحدة موقف المتفرج حيال ما يجري من نزاع ومواجهات بين السودان ودولة جنوب السودان. واشنطن بصورة أو بأخرى حاضرة هناك فى قلب النزاع ومن وراء الكواليس كشأنها منذ أن بدأت حركة فصل جنوب السودان عن السودان بأسلوب كان واضحاً أن فيه قدراً من التحوير وسوء القصد. بل لا نغالي إن قلنا، إن فصل جنوب السودان - إستغلالاً لحق تقرير المصير - تحول فى لحظة ما، بفضل التدبير الأمريكي الإسرائيلي، الى (حق) أُريد به (باطل). بمعني أنه لم يكن أبداً مجرد حل مُستدام لأزمة متطاولة دفع ثمنها السودان طوال نصف قرن قدراً مهولاً من موارده وثرواته التى كانت كفيلة بأن تضعه فى مصاف الدول الأفضل نمواً. ففي الوقت الذى كان يعتقد فيه السودان أنه (وجد الحل) كانت واشنطن وتل أبيب تخططان لخلق أزمة معقدة. صحيح أن الولاياتالمتحدة تتظاهر بأنها (وسيط نزيه) وصحيح أن الرئيس أوباما بدا (كناصح) للطرفين، وتظاهر بممارسة ضغوط على الجانب الجنوبي عبر (دبلوماسية الهواتف)! وصحيح أيضاً ان المجتمع الدولي لم يمنح الحكومة الجنوبية أيّة فرصة لإلتقاط الأنفاس وظل يضغط عليها لسحب قواتها من هجليج معتبراً إياها معتدية على أرض الغير ؛ ولكن رغم كل ذلك واشنطن جزء لا يتجزأ من عملية التدمير المتقنة لما حدث، ولو تطاولت الأزمة لأكثر من ذلك لأفتضحت ولبانَ المستور، خاصة وأنّ المندوبة الأمريكية فى مجلس الأمن خانتها أعصابها السياسية وسارعت لإخراج بيان رئاسي حوي تهديداً مزدوجاً للطرفين، فى مفارقة تاريخية لم يشهد لها العالم مثيلاً حين يتم تهديد الجاني والمجني عليه بالعقوبات! لقد اتضح أن إحراق منشآت النفط فى هجليج تم بواسطة خبراء دوليين، وهى نقطة كان من السهل على المهندسين والخبراء العاملين فى الحقل أن يكتشفوها ويسبِروا غورها. ومن المفروغ منه هنا أن المستحيل أن تتم عملية كهذه دون مشاركة واشنطن أو إسرائيل أو حتى دون علمهما؛ لأن التصرفات الجنوبية بالنسبة لهما مكشوفة وواضحة كالشمس. يُضاف الى ذلك أن واشنطن طرف له مصلحة فى عرقلة تدفق البترول السوداني، فقد سبق للشركات الأمريكية (شيفرون) أن أوقفت عمليات استخراج البترول والتنقيب عنه فى ثمانينات القرن الماضي بدواعي أمنية واهية، ولكن كان الهدف المُستتَر كما هو معروف هو الحيلولة دون إخراج البترول السوداني فى هذه المرحلة حتى يمكنها أن تعود إليه عند الحاجة. وليس بمستبعد فى هذا الصدد أن تكون المخيلة الأمريكية محتشدة بتصورات تجعلها تهيمن بصورة أو بأخرى على بترول المنطقة بأسره، ما كان منه فى السودان وما كان منه فى جنوب السودان؛ كما أن من المعروف أن واشنطن تسعي لإخراج الصين من العملية كلها. وهو أمر ظلت - لسنوات - تسعي وراءه ولهذا فهي الآن تستخدم قفاز النزاع السوداني الجنوبي لتوجه من وراءه ضربات الى الصين. وعلى أية حال، فإن اللعبة التى تجري – على الطريقة الأمريكية – من الصعب أن تستمرّ، ومن الصعب أن تنجح!