لست وحدك يا حسام ولا أنت يا مصطفى ولا أنت يا منى ولا أي من أخوانكم فكل الوطن افتقده وبكاه.. كنت أعرفه معرفة شهرة كمعرفة الثرى للغمام معرفة في اتجاه واحد.. ثم تعرفت على أستاذ الأجيال الرجل (الحبوب) محمود عبدالرحمن حسن بعد عودتي من الاغتراب ثم توثقت الصلة بيننا عندما انتقلت للعمل بالصندوق القومي للمعاشات وهو أحد الخبرات الوطنية التي خدمت الوطن حتى (بلوغ السن). كان له ولاء مطلق لمهنته (الصحافة) واكتشفت ذلك عندما رفع نبرة صوته المهولة وهو يرد عليّ لما وصفته بأنّه إعلامي مخضرم في إحدى زياراتي له بمنزله العامر فقال: أنا صحفي ولكن انتدابي للعمل كمدير للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون أصبغ عليّ صفة الإعلامي. كان من الصحفيين القلائل الذين إذا انتقدوا المؤسسات الحكومية ذكروا إيجابياتها بجانب سلبياتها ولي معه في ذلك شواهد كثيرة أذكر له منها عندما نظمت له زيارة قيادات الصندوق في منزله وكان على رأس الوفد الأستاذ/ كمال علي مدني المدير العام حينها فكتب في عموده «من قريب ومن بعيد» في صحيفة آخرلحظة مقدراً تلك الزيارة شاكراً الأستاذ/ مدني والوفد المرافق له معظماً دور الصندوق القومي للمعاشات. كان طيب القلب خفيف الروح فعندما وقع رقمه المعاشي ضمن مجموعة الأرقام التي ينبغي أن تخضع للمراجعة الدورية وبما أن المراجعة تتطلب شهادة بأن المعاشي علي قيد الحياة أو أن ورثته لازالوا يستحقون استمرار صرف المعاش، اتّصل بي وسألني: هل صحيح مطلوب مني أن أثبت أني حي؟! قلت له ضاحكاً: نعم يا أستاذ.. فرد عليّ ضاحكاً: يعني العمود البتقروه كل صباح دا أنا قاعد اكتبو من داخل القبر؟! شوف يا علي يا ابني أنا عليّ الطلاق ما أجيب لكم شهادة بأني حي والمعاش بتاعي دا إذا ما يجي إلا بالشهادة دي أنا خليتو.. فقلت له: أستاذي.. أها وأنا علي الطلاق طلاق جعليين مو طلاق ناس أم درمان إنت تب ما تجيب شهادة حياة ومعاشك يجيك لاعندك في البيت أو في البنك زي ما تحب.. ضحك ضحكته الأبوية المجلجلة تلك وقال وهو يضحك: دا الكلام.. ثم كتب صباح الغد في عموده ما معناه (ميت يكتب من داخل القبر) كان رغم أنه صحفي والصحفيون أكثرهم يحبون المشاكسات ورغم أنه معاشي نزل على النظام القديم الذي كان سيء التصميم كان يقدر تماماً الإصلاحات الكبيرة التي قام بها الصندوق في نظام المعاشات وكان يذكر ذلك شفاهة وكتابة. مرت ذكرى رحيله يوم 13 مايو الجاري وأنا ألزم السرير الأبيض بثلاثية (القرحة والقولون والأذن الوسطى!!) التي سأعود إليها في مقال لاحق إن شاء الله ولكن مقالك يا حسام يوم 15 مايو في (آخرلحظة) أضفى على ذكرى الرحيل أمل البقاء وحرر شهادة حياة (لأبي العزائم) ليست من أجل المراجعة الدورية للمعاش ولكنها شهادة حياة السيرة العطرة والخلود في (ذاكرة الأمة) بالمناسبة فإن إذاعة (ذاكرة الأمة) تتحفنا بحواراته الثرة مع العمالقة كعثمان حسين وآخرين من جيل الرواد فتمتعنا بالسهل الممتنع ونشتم منها عبق أم درمان المعتق وأريج السودان ذي التشكيلة الأنيقة من المجموع والسرتية والمحلبية والمحلب والصندلية والصندل والصفرة والقرنفل والحناء والكليب والشاف والطلح.. يا حسام إن رجلاً أسهم بقدر وافر في تشكيل الوجدان السوداني ورسم لنا خارطته المعنوية بجانب رفاق جيله الميامين، إن رجلاً قضى أكثر من نصف قرن من الزمان يعطي ثم يترجل لا يملك عربة!! والبركة في صاحب التاكسي (الشيخ علي) الذي كان يصحبه في معظم تنقلاته والبركة في سكرتيرته (عطور) أمينة سره وحاملة قلمه، إن رجلاً اجتمعت يوم شيعناه جميع ألوان الطيف السياسي في الوطن، إن رجلاً ترك لنا العلم والأريحية وترك لنا مصطفى ومنى وحسام وأخوانهم، إن رجلاً هو كل هذا وزيادة لم يمت: فالحي من يمضي والخير سيرته والميت من يبقى للشر متروكاً فيا حسام: أنتم العزائم وهو أبوها فلا تحزن وادع له دائماً كما دعوتَ له وقلنا بعدك: آمين ..