وصلاً لما انفصل من حديث مضى حول المنارات التي أضاءت وما فتئت تضيء طريق الرشاد إلى رضاء ربِّ العباد، نشير في بداية هذه المقالة إلى بعض الآثار الإيجابية التي ألقت بروحها على الأنبياء دليلاً واضحاً على إسباغ رداء إنسجامهم المضمَّخ بأريج القدوة على سلوكهم، وتوافقه مع موجهات التربية التي تحوَّلت عندهم إلى نهج يرسم طرائق الرشد المبين، فقد قال الله تعالى في ما معناه لنبيِّه من خلقه وصفيِّه محمد عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم: يا محمد لقد علمتُ مدى عِظم رحمتك ورأفتك على أمَّتك، فماذا ترى لو أني تركتُ أمرهم إليك؟ ماذا كان ردُّ المصطفى عليه صوات الله وسلامه: لا يا ربِّي أنت أرحم بهم مني، نعم إنها لقناعة بالطبع كانت وليدة للتربية المالكة لنواحي السيرة لدى هذه القمة الإنسانية العالمية. أما موسى عليه السلام فقد اْلتمسَ مزيداً من العلم عند عبدٍ من عباد الله الصالحين ولم يأخذه شعور النبوة إلى التّعالي والغرور، فهناك وفي تلك الساحة العامرة بعميق التجارب أنكر عليه السلام، بل استعظم سلوك العبد الصالح رغم وعدِه إيّاه بالصبر على ما يصدر عنه من أمور قد تبدو غريبة. لقد نبتت من أرض هذه الرحلة الميمونة دروس ساهمتْ في بناء عود أحد أُولي العزم من الرسل، نزع العبدُ الصالحُ لوحاً من ألواح السفينة المملوكة للمساكين وقتل الغلام، وأقام الجدار كما تحكي لنا سورة الكهف، وقد كانت هذه الأحداث مثار عجب واستغراب لدى موسى عليه السلام، بيد أن تحت ستارها قد استقرت الحكمةُ الداعيةُ له لكي يعمِّق التفكير في ربط ما يقع من أحداث خلال حياة الإنسان، وتحليل مكوناتها واستنباط ما تنطوي عليه من حكمٍ ومواعظ، فيا رسول الله هل الإقدام على تعريض حياة الإنسان للخطر يخلو من كل المعاني عدا التوجه نحو الموت والهلاك؟ وهل القتل دوماً يشير إلى وقوع الجرم والخطيئة؟ وهل ما نقدِّم للناس يستدعي طلب الأجر في كل الأحوال؟ كان التعامل مع السفينة بقصد إلحاق العيب بها، وليس لإغراق من كانوا على متْنِها تماماً كما كان حالك يوم مولدك وأنت في اليم، فهل كان قصد أمك هو قتلك؟ بالطبع لم يكن الأمر كذلك، وإنما كان الغرض هو انتقالك إلى بيت الفرعون لِتنشأ هنالك ولتكون له حزناً. وقتل الغلام كان لحكمةٍ أرادها الله تعالى وهي تقضي بحماية الوالدين الطيِّبين من الفتنة وليس بقصد ارتكاب جريمة القتل، وهذا يحاكي قتلك الخطأ لأحد آل فرعون وشيعته، ولعل ذلك كان من عوامل إيقاظ فكرة الهجرة عندك وإكسابك القدرة على فراق أهلك، أما الجدار فكان دافع إقامته متعلقاً بأمر مفاده أن ما يبدو لك وكأنه عمل خيرٍ ربما استبطن الشرَّ في داخله، فالجدار إذا استكمل انهياره فسيكشف عن كنزٍ لصغارٍ لم تشتد أعوادهم بعد، ولعل إطالة عمر هذا الجدار هو السبيل إلى الاحتفاظ بكنزهم، وما يبدو لك في ظاهره عمل خيرٍ لأهل هذه القرية هو في حقيقته عقوبة على لؤمهم وبخلهم وسوء معاملتهم. أما بساط سليمان عليه السلام مع رحلة الريح ذات الغدوِّ والرواح الشهري قد اهتز به بمجرد زيارة خاطرة الزهو والفخر وهذا ما لا يريده الله لأنبيائه حتى في مرحلة الخواطر. وعندما أوجس سليمان عليه السلام خيفةً من جراء هذه الهزة قال له البساط: لقد أُمرنا أن نطيعك ما أطعتَ الله، فاستوعب الدرس، وزجر النفس، وعاد إلى جادة الطريق مُخبِتاً.