(3) يعجب المرء كيف يتجه من يدعي ابتكار منهج علمي جديد في البحث، إلى اعتماد أساليب الغنوصيين الباطنيين، في ادعاء الفهم الإلهامي الخاص، المتأتي عن مصدر لدنِّي يتاح له وحده، ولا يتاح للآخرين بالضرورة، ثم يرجو من هؤلاء أن يتبعوه في هديه الإلهامي اللدني ولا يخالفوه. فقصة التأزم النفسي الحاد الذي عاناه حاج حمد، ثم اغتساله وصلاته وتلاوته، وادعائه الكشف بعد ذلك على قصة الخضر الواردة في سورة الكهف، إنما هو شأن شخصي وتجربة خاصة لا تختلف عن تجارب كثير من الصوفية بطبقاتهم المختلفة، ولا تشذ عن تجارب أفراد عاديين من غير الصوفية، تلتئم أجزاؤهم المتنافرة حينا وتصفو نفوسهم ويلهمون بعض المعاني، ولا يكون أي من إلهاماتهم ملزما لهم ولا للآخرين، فالمعرفة عن طريق الحدْس، والفيض، والإلهام، والإشراق، ليست معرفة موضوعية، شرعية، ملزمة، وأحيانا تكون مضللة، فكما تكون الرؤيا رحمانية في بعض الأحيان، فقد تكون شيطانية في أحيان أخرى. وقد أسرف حاج حمد في حديثه عن معارف سيدنا الخضر، عليه السلام، وتحصيله لمعارف لم يحط بخبرها سيدنا موسى عليه السلام. وكأنما أراد من ذلك، بل هو أراد فعلا، أن يوهمنا أن بإمكانه أن يحصل باتباعه منهج الخضر، عليه السلام، على معارف أصح وآكد مما حصل عليه نبينا العظيم محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي نبذ حاج حمد سنته الشريفة، وبخل بإسداء الصلاة والسلام عليه، حين ذكر اسمه الشريف مئات المرات في كتابه التلبيسي الذميم (العالمية الإسلامية الثانية)، فلم يصل ولم يسلم عليه، ولو مرة واحدة، في نحو ألف صفحة من صفحات ذلك الكتاب. وقد أخطأ حاج حمد وهو يستلهم قصة الخضر عليه السلام المغزى الأول فيها. فإنها جاءت على سبيل تنبيه سيدنا موسى عليه السلام وعتابه على خطا ارتكبه عندما قال لبني إسرائيل أنه أعلم أهل الأرض. فبعث الله تعالى إليه الخضر ليعلمه أن ثمة من هو أعلم منه. مغزى قصة الخضر روى البخاري، رضي الله عنه، عن عبد الله بن محمد قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت: لابن عباس إن نَوْفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر. فقال: كذب عدو الله (عد بعض العلماء مثل هذا القول زجرا ولا يقصد به معناه الحرفي). حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال: يا رب وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتا في مكتل (المكتل: زنبيل يسع خمسة عشر صاعا). فإذا فقدته فهو ثمَّ فانطلق، وانطلق بفتاه. يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل حتى كانا عند الصخرة وضعا رؤوسهما وناما، فانسلَّ الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربا. وكان لموسى وفتاه عجبا (من إحياء الحوت المملح الذي كانا يأكلان منه!). فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما. فلما أصبح قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. ولم يجد موسى مسَّا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به. فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان. قال موسى: ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا. فلما انتهيا إلى الصخرة إذا رجل مسجَّى بثوب، أو قال تسجى بثوبه، فسلم موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى. فقال موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا. قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. قال: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة. فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما. فعرف الخضر فحملوهما بغير نوْل[1]. فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر. فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر. فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه. فقال موسى: قوم حملونا بغير نوْل عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. فكانت الأولى من موسى نسيانا، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده. فقال موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال ابن عيينة: وهذا أوكد. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه. قال الخضر بيده (فأقامه) فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرا. قال هذا فراق بيني وبينك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما ". وواضح أن سيدنا الخضر، عليه السلام، كان يعلم أكثر من سيدنا موسى، عليه السلام، في أمور محددة، وقد فوض لتنفيذ أعمال معينة، بعضها لا ينسجم مع ظاهر الشرع، كقتل الغلام، فهل أوتي الأستاذ محمد أبو القاسم حاج علما كهذا، يخوله أن يتجاوز ظاهر الشرع، ليبحث عن باطن لمعانيه، تخالف ظاهره، يراها أولى بالتطبيق؟! هل أوتي حاج حمد علم الباطن؟ أم يزعم حاج حمد أنه قد ألهم بمنهجه هذا المدَّعى علم الباطن، الذي لا يتاح إلا لكبار المجذوبين الواصلين، ويحجب عن الوصول إلى أعتابه العلماء العاديون، ومنهم آلاف المفسرين، الذين تناوبوا النظر التأملي العميق إلى آيه، عبر مئات السنين، ولم يصلوا إلى المقصود الحقيقي منه، كما زعم حاج حمد، وصدقه الأغرار الموهومون، من أتباعه، الذين لا يكفون عن الحديث المنبهر عن تفوقه على المفسرين القدماء منهم والمحدثون؟! لا غرو أن يستعلي حاج حمد على المفسرين وهو الذي تطاول على مقام النبوة وأنكر أن سنة النبي، صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن الكريم وتفصله، بل تطاول على القرآن الكريم نفسه الذي أشار إلى أن من شأن النبي، صلى الله عليه وسلم أن يفصل للناس ما نزل إليهم من الذكر الحكيم. القول الفصل وإذا كان الأستاذ حاج حمد يكره ما يقول الإمام ابن تيمية في هذا الخصوص، فإنا لهذا السبب بالذات، نذكره ونبينه للناس، لأنه من فصل الخطاب. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: إن: الغلط الذي وقع لأولئك القوم في الإحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة، مجتهدا في رد ما فعله الخضر إلى الشريعة ومما ذكره، أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته و طاعته، بل قد ثبت في الصحيحين: " أن الخضر قال له: يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة. وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء:" كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. فدعوة محمد، صلى الله عليه وسلم، شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، والإستغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته، مستغنيا عنه بما علمه الله. وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه. ومن سوَّغ هذا، أو اعتقد أن أحدا من الخلق، الزهاد والعباد أو غيرهم، له الخروج عن دعوة محمد، صلى الله عليه وسلم، ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا. فهل يريد الأستاذ حاج حمد أن يقول إن في علم عالميته الإسلامية الثانية المدعاة، ما لم يعلمه سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! أو يريد أن يقول إنه يجد للناس حلا عن متابعة هدي نبي الله محمد، صلى الله عليه وسلم، ويجد لهم بديلا أفضل عن ذلك، وأنسب لظروف العصر الحديث، مما جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، في عصر سابق، هو عصر العالمية الإسلامية الأولى، التي أكثر الأستاذ حاج حمد من الحديث في نقدها، وشرح تخلفها عن الوفاء بحاجات العصر الحديث؟!