شاهدت على متن الطائرة المصريّة، وفي الرحلة المتجهة من قوانزو إلى بانكوك، فيلماً عن المناضل الأفريقي، نيلسون مانديلا، وكان الفيلم رائعاً، وممتعاً، وملهماً، وهدية جميلة لقضاء الوقت في شيء مفيد، مع تلك الرحلة الطويلة، والمملّة، التي استغرقت نحو ثلاث عشرة ساعة، بما فيها ساعة الانتظار في مطار بانكوك، والتي قادتنا إلى القاهرة، من قوانزو، في جنوب الصين، كان الفيلم مذهلاً، منذ دقائقه الأولى، ثمّ تتابعت أحداثه بسلاسة، وحبكة، وذكاء، ولم أجد أدنى سبب يجعلني أظنّ أنّ ممثل هذا الفيلم شخص آخر، غير نيلسون مانديلا..! وحيث إنّ الأمر تم في رحلة عابرة فلم أجد فرصة لأعرف اسم الفيلم الذي كان بطله الممثل المعروف مورقان فريمان الذي أدى دور نيلسون ومن بعده أبرز المشاركين في الفيلم رجالاً ونساء، ولكنني بإذن الله سأفعل متى ما وجدت فرصة سانحة لسؤال عمنا (قوقل) كما يقول أخي هاشم سلطان الذي يسأل عمه قوقل عن كل شاردة وواردة..! وكنت قد سألت العم قوقل عن درجات الحرارة في بكين قبيل سفري بيوم واحد، فقال إن بكين حارة جداً هذه الأيام ودرجة الحرارة عالية، فتحللنا من الملابس الثقيلة، وعند وصولنا بكين وجدناها تنعم بربيع جميل وجو أخاذ، وشكرت العم قوقل الذي جعلنا نفرح بالجو الجميل، حيث كنا نتوقع صيفاً حاراً ملتهباً كحر الخرطوم قبل شهرين من الآن..! كانت الحبكة في قصة مانديلا عن التعايش مع الآخر، ومحاربة العنصرية بكل ألوانها وأشكالها.. فلقد شهدت جنوب أفريقيا عقوداً طويلة وقاسية من التميز العنصري، حيث كان الرجل الأبيض هو السيد والحاكم المطلق، حين تبدل الحال وأصبح نيلسون مانديلا أو (ماتيبا) كما يحلو لأهل عشيرته أن يسموه، أصبح السود هم أهل الأكثرية ولكن هل سيمارسون تميزاً عرقياً ضد البيض والملونين، كان الاختبار شاقاً والتضحية عظيمة، وقد بدأ نيلسون التجربة على نفسه وبنفسه، وكان فريق سبرنق بوكس Spring boks للركبي، فريقاً جُل لاعبيه من البيض وحظيّ بكراهية غالبية السود من أبناء جنوب أفريقيا، كان على نيلسون مانديلا أن يقبل بفريق سبرنق بوكس فريقاً موجوداً في بلاده، وأن يقبله كما هو، بل ويشجعه وأن يجعل الشعب ينحاز إلى الفريق نفسه وأن يتقدم بخطوات أكثر قوة من تلك بأن يجعله فريقاً قومياً لبلاده جنوب أفريقيا، في منافسات كأس العالم للركبي..! ماذا فعل مانديلا ليجعل من نفسه أولاً محباً لهذا الفريق؟ كيف يمنع غضبة شعبه على هذا الفريق، بل وعليه عندما يعلن انحيازه لهذا الفريق ويمنحه رضاءه ورعايته..! لقد أحدث مانديلا تغييراً مذهلاً في ذهنية فريق سبرنق للركبي ونقلهم من خانة التميز والعداء للسود إلى مساهمين فاعلين في تعليم أولاد الفقراء في جنوب أفريقيا، وذلك من خلال خطوة واحدة ذكية بدعوة فرانكوس بينار كابتن الفريق وأشهر لاعبيه، إلى زيارته وجلس معه بعض الوقت ليخرج الشاب الرياضي الأبيض الأنيق معجباً برئيس البلاد ماتيبا ومتأثراً به من صميم قلبه.. نال فريق سبرنق محبة ودعم شعب جنوب أفريقيا وخاض منافسات العالم للركبي ليصبح فريقاً عالمياً يُحسب له ألف حساب..! لم يكن كل ذلك سهلاً ولا بسيطاً، ولكنه عمل شاق بأفكار غاية في القوة والجمال وتشق طريقها في مجتمع ما تزال العنصرية موجودة وراسخة.. ولكن ذلك الرجل الحكيم كان رجلاً مختلفاً لا مثيل له في تلك الحقبة من تاريخ العالم والبشرية.. كان الحوار في الفيلم ينضح بالحكمة، والكلمات غاية في العمق والتفرد، وأبطال الفيلم وحتى الكومبارس كانوا يؤدون أداوراً غاية في الإبداع وبروح من المحبة والجمال والهيبة التي يصنعها مانديلا حيثما حلّ وفي بساطة تدعو للاندهاش..! لقد أوقف مانديلا قراراً بالإجماع لمحو فريق سبرنق بوكس من خارطة الرياضة في بلاده، ثم وجه دعوة هادئة وجميلة لكابتن الفريق بينار، وجلس معه بعض الوقت ليحوله من كاره لمانديلا إلى محب وإلى متحمس للنصر بلا حدود.. لقد حول أبطال فريق سبرنق بوكس من بيض متعصبين إلى شباب محبين لبلدهم جنوب أفريقيا، ومتحمسين لفوزها، لقد وظف قدرات هؤلاء اللعيبة لتعليم أبناء الوطن في القرى النائية الفقيرة كرة الركبي، لقد تحول الشعب كله إلى متحمس غاية في التحمس لفريق سبرنق للركبي، وقد أشعل الفريق حماس الشعب كله وهو يحقق فوزاً غالياً لا يصدق على فرنسا، كنت في كل لقطة انتقل بأفكاري ومشاعري إلى السودان وإلى رئيس الجمهورية ووزير الرياضة ورئيس اتحاد الكرة، وفريقنا القومي وكابتن فريقنا القومي وجمهور الكرة السودانية، بل والشعب السوداني كله، وتساءلت عن روح الإلهام والإبداع الغائبة عن أعمالنا وأفكارنا وخططنا وبرامجنا، وتساءلت عن ابتعادنا الذي لا سبب له ولا مبرر عن المشاركة كشعب في مناقشة قضايانا الإستراتيجية، وتساءلت عن غياب إعلامنا الذي لا مبرر له عن حياة رئيسنا اليومية وعن كيفية حكمه وعلاقاته مع الناس والعالم المحيط به، وكلنا نعرف أن الرئيس رجل مشارك بشكل يدعو للإعجاب في كافة أوجه حياة الناس اليومية، في أتراحهم وأفراحهم، وهذه اللقاءات مع الناس يدور فيها الكثير من الحديث والحوارات حول شؤون الحياة اليومية ولا شك أن للسيد الرئيس أفكاره التي يطرحها ويقدمها للناس، كما أنه بالمقابل يستمع من عامة الناس ما يمس حياتهم وظروفها المعقدة والمتشابكة.. وينفعل بها ويتفاعل معها.. أدعو الإخوة في رئاسة مجلس الوزراء الموقر عرض هذا الفيلم في إحدى جلسات مجلس الوزراء بحضور عدد من لاعبينا ورموز الرياضة في بلادنا وخبرائنا وصحفيينا وإعلاميينا للمشاهدة والتعليق، وكما أنشأ الأخ الوزير الهمام كمال عبد اللطيف استوديو تليفزيونياً في مقر مجلس الوزراء، أرجو أن يتم في عهد الوزارة الجديدة إنشاء قاعة للعرض السينمائي بمقر المجلس أيضاً وأن يُتاح للسادة الوزراء مشاهدة بعض الأفلام العالمية المنتقاة التي ربما تساهم في إحداث جو من التغيير والإندهاش يقود لما ننشده من أعمال تتسم بالإبداع والحكمة والجمال.. وبالعودة إلى قوقل فقد وجدنا أن الفيلم اسمه التأثير العميق. وهو من إخراج الممثل الشهير كلينت ايستود ولعب دور بينار الممثل مات دامون.