شهدت نهايات الأسبوع المنصرم ومطالع الأسبوع الحالي بشائر لافتة في موسم الربيع العربي، تمثلت في نقلات سريعة ونوعية لتطور الأحداث في كل من ليبيا واليمن وإلى حد ما في سوريا، أكدت أن الثورات العربية في هذه البلدان الثلاثة ماضية إلى غاياتها وتقترب من تحقيق أهدافها المتمثلة في تغيير بنية الأنظمة القابضة التي لم تتوني في إراقة دماء شعبها من أجل استمرار وديمومة الحكم والهيمنة. في ليبيا اتّخذ مسار الأحداث مستويات عديدة تنبيء كلها باقتراب ساعة الخلاص، فعلى المستوى العسكري بدأ الثوار يحكمون قبضتهم على العديد من المدن والنواحي. شرقاً، حيث باتو على مقربة من «البريقة» الميناء المهم في هلال النفط الليبي والذي تعني السيطرة عليه فتح الطريق الى رأس لانوف وسرت ومن ثم التواصل بين الشرق والغرب حيث يحكم الثوار قبضتهم على مدينة مصراتة بعد أن أجلوا كتائب القذافي التي أصبحت تتمركز في المزارع والتلال والقرى القريبة منها وتُمارس القصف البعيد، وكذلك يخوض الثوار معارك عنيفة في الجهة الغربية في جبل نفوسة والزنتان ولانوف والمعابر الحدودية مع تونس وفي الجنوب في الكفرة ومحيطها. وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي فقد أحرز المجلس الوطني الانتقالي مزيداً من الاعتراف الدولي حيث زار رئيسه مصطفى عبد الجليل تركيا التي قالت صراحة إن المجلس ممثل شرعي للشعب الليبي، كما طلبت الولايات المُتّحدة من المجلس فتح مكتب له في واشنطن بالرغم من أنها لم تعلن اعترافاً صريحاً به، وحتى في نطاق القارة الأفريقية نجد أن المجلس حقق بعض الاختراقات المهمة حيث أعلنت السنغال اعترافها به وقررت إيفاد مبعوث دائم لها في بنغازي. لكن الاختراق الأكبر والأهم تحقق يوم أمس الأول الجمعة في ختام قمة الثمانية الكبار التي انعقدت في دوفيل بشمال غرب فرنسا، اختراق لم يقتصر على ليبيا وحدها بل مثل اعترافاً دولياً شاملاً وتعاطفاً علنياً مع ثورات الربيع، التي قررت القمة مجتمعة دعمها بما يصل الى أربعين مليار دولار، وهي القمة التي شهدت نقلة نوعية في الموقف الروسي الذي شابه التردد، بل وأكثر من ذلك النقد المرير لما يقوم به حلف الأطلنطي من هجمات جوية على مواقع العقيد القذافي وكتائبه وآلته الحربية. ففي ختام تلك القمة أعلن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، على غير ما توقع المراقبون، أن العقيد القذافي ونظامه أصبحا فاقدين للشرعية الدولية والشعبية وعليهما أن يرحلا، وأن بلاده غير مستعدة لتوفير ملجأ له، ولكنها على استعداد للقيام بالتوسط والتفاوض من أجل إنجاز ذلك الهدف -هدف الرحيل-. الموقف الروسي جاء، قطعاً -بمثابة مفاجأة صاعقة وصادمة للعقيد وأعوانه، فخرج خالد الكعين رئيس لجنة العلاقات الخارجية -الذي خلف الوزير المنشق موسى كوسا- بعد وقت قصير من حديث الرئيس ميدفيديف ليُعلن عن موقف غريب يشي بحالة الاضطراب، وهو أنهم لا يتعاملون في مثل هذه المسائل من خلال وسائل الإعلام، وأنهم لن يوافقوا على وساطة روسية إلا إذا أتت عبر الاتحاد الأفريقي. مرة أخرى العزف والقرع على «الطبول الأفريقية». خصوصاً وهدف الوساطة أو المساعي الروسية لن يكون أكثر من تهيئة مخرج آمن للقذافي وأولاده والبحث عن ملجأ له لن يكون روسياً بحال من الأحوال. الموقف الروسي الجديد يعني أن حلف الناتو أصبح في حل من الانتقادات الروسية، وبروز جبهة عالمية موحدة في مواجهة العقيد وكتائبه الأمر الذي سيترتب عليه إطلاق يده لتوجيه مزيد من الضربات الجوية والصاروخية، وربما يكون الاستهداف المركز للعاصمة طرابلس ومقار العقيد خلال اليومين الماضيين مؤشراً في هذا الاتّجاه، بل عمد الحلف يوم الجمعة إلى الزج بطائرات «أباتشي» المروحية، في المعارك الدائرة هناك للمرة الأولى بغرض استهداف الكتائب وآلياتها وتجمعاتها البشرية بشكل مباشر، الأمر الذي لا يتيسر للصواريخ والطائرات النفاثة. أما في اليمن، فقد شهدت نهاية الأسبوع، وبعد أن رفض الرئيس علي عبد الله صالح المحاولات الحثيثة والمتتالية من جانب السعودية ودول الخليج المتمثلة في مبادرة مجلس التعاون الخليجي في نسخها الخمس، والتي تعلل صالح في كل مرة بذرائع واهية من أجل التهرب من التوقيع عليها، وكان آخرها يوم الأحد الماضي عندما حشد أنصاره المسلحين حول سفارة الإمارات في صنعاء التي اجتمع فيها الدبلوماسيون الخليجيون والغربيون من أجل التوقيع وأصر على أن يكون التوقيع في قصره الرئاسي وبحضور أحزاب اللقاء المشترك المعارضة، وهدد في ذلك اليوم بأن على المعارضين أن «ينصاعوا» ويأتوا للتوقيع هناك إذا أرادوا السلم وإلا فإن «الحرب الأهلية» ستندلع وسيتحمّلون مسؤوليتها. ولم تمض سوى أيام قليلة إلا ووقع صالح في «شر أعماله» حيث وجه قواته لمهاجمة قصر شيخ مشايخ قبيلة حاشد صادق الأحمر ودور آل الأحمر في شرق صنعاء، فتصدى حرس آل الأحمر لقوات الأمن ما أدى إلى وقوع أكثر من «100» قتيل، فاشتعل جزء كبير من صنعاء، وتحركت جموع كبيرة من قبائل حاشد في محافظة عمران ومن جميع أنحاء اليمن باتجاه صنعاء لنجدة شيوخهم، إلا أن الشيخ صادق وأخوانه كانوا على قدر كبير من الحكمة، حيث عملوا على إخماد الفتنة وتدخلت السعودية من أجل وقف إطلاق النار بين قوات صالح وشيوخه آل الأحمر، فصالح ينتمي لنفس القبيلة التي تمردت عليه وانضمت إلى الثورة، مثلما فعل آخرون يمتون له بصلة القرابة والولاء في الجيش والحزب. وأمس الأول غاب صالح على غير العادة عن الحشد الذي ينظمه أنصاره كل جمعة ويعتلي المنصة ويخطب فيهم، وهو غياب ليس له تفسير آخر سوى خشية الرجل من أن يتعرض للاغتيال من أنصار آل الأحمر المتحمسين أو من جهة أخرى تستعجل رحيله وترى في هجومه واستفزازه لشيوخ حاشد وقتاً ملائماً لتنفيذ خطّتها. وبهذا يكون وضع صالح واليمن قد انتقل الى مرحلة جديدة، اتخذ الصراع فيها بعداً جديداً وخطيراً. فإما أن يرحل صالح على عجل ويلبي جميع شروط المبادرة الخليجية المعلقة أو أن يختفي في قصره وبين قواته ويفجر الحرب الأهلية في بلد معبأ بأكثر من 50 مليون قطعة سلاح، وهذا ما لن تسمح به القوى الإقليمية والدولية بالنظر لموقع اليمن الإستراتيجي في جغرافية الطاقة النفطية وممراتها الدولية. أما السيّد الرئيس بشار الأسد، وبرغم أن المطروح عليه هو «الإصلاح» وليس «الرحيل» فقد تلكأ الرجل منذ أن انطلقت الاحتجاجات في بلاده ولم يقم بما يوحي أنه في سبيل إنجاز الإصلاح الذي وعد به منذ خلافته لأبيه قبل عشر سنوات، ويفسر المراقبون هذا التباطؤ والتلكؤ بأن الرجل لا يملك قراره وأنه تُحيط به جماعة من الحرس القديم والمستفيدين الجدد تعرقل إرادة التغيير لديه ولا يستطيع مقاومتها. لكن العالم من حوله وبعد استمرار وتصاعد العنف الذي ينسبه إعلام النظام السوري «للمُندسين» و«المخربين» بدأ يفقد الأمل -كما الشعب السوري- في إمكانية استجابة بشار لمطلوبات الإصلاح السياسي والاقتصادي. فمثلما انتقل الشعب من خانة المطالبة بالإصلاح الى خانة «الشعب يُريد إسقاط النظام»، فإن العالم يُطالبه بالتعجيل بالإصلاح والكف عن استخدام العنف والرصاص في مواجهة المتظاهرين، قال ذلك أوباما وقاله زعماء الاتحاد الأوروبي، بل قاله أردوغان الجار الصديق الذي كان يدافع عنه حتى أيام قليلة مضت. وأهم من ذلك أننا قد سمعنا الرئيس الروسي ميدفيديف يدعو الأسد صراحة لوقف العنف والاتّجاه بسرعة نحو الإصلاح الديموقراطي وأن «يتبع الأقوال بالأفعال» كما قال في ختام «قمة الثمانية» في دوفيل. ما يعني أن العالم أيضاً أصبح موحداً في مواجهة بشار، فإما الاستماع لصوت الشعب ومغادرة صيغة الحكم الراهن التي تجعل من «حزب البعث» الحزب الأوحد و«القائد للدولة والمجتمع» والعمل على اجتثاث الفساد أو مغادرة السلطة طوعاً أو كرهاً.. خياران أحلاهما مرُّ!