مرة أخرى أكتب وأقول: كلما فقدت عزيزاً دفنته في صدري وأقمت له ضريحاً اليوم أمد يدي إلى صدري فوجدته مليئاً بالأضرحة أخي أبو سامر.. لم أكن أعلم أن آخر محادثة معك هي التي هاتفتك بها وأنا في طريقي للقاهرة من مطار الخرطوم.. ولم أصدق عندما طلبت مني العودة لأودعك لأنه حسب ما قلت (ما حاتشوفني تاني إذا ما جيت ودعتني).. ولم أنسَ بضع كلمات قلتها لك وأنا في طريقي إلى الطائرة (يا راجل بطل الخوف.. الموت ما معروف لي منو).. لذلك كان خبر وفاتك مفاجأة لم أتوقعها.. وكان سماع الخبر حزناً عليّ.. وجاء النبأ ألماً على نفسي.. بل كان نصلاً حاداً أليماً.. شل تفكيري.. انعقد لساني.. تجمد بياني.. حار دليلي.. وظللت أسكب الدمع الحزين في ألم الفراق مردداً الحمد والاستغفار جهراً وسراً طالباً لك الرحمة والغفران.. إنه الموت سنة الحياة سبيل الأولين والآخرين.. بل إنه الموت الحقيقة الواحدة الوحيدة المؤكدة.. مع كل ذلك تبقى الحقيقة المرة المحزنة المؤلمة.. عدة تساؤلات ظلت تلاحقني ولم تبرح عيني رغم أن إجابتها كانت دائماً وأبداً واحدة.. أحقاً فارق أحمد الحياة.. أحقاً ودعت العرضة أحد أبنائها الأبرار.. أحقاً طوت البلاد أحد راياتها.. أحقاً أفل نجم ثابت راسخ القدم عالي الكعب.. أحقاً ودع الحياة أحد أجيال العطاء لا جيل الأخذ.. أحد أجيال التعاضد والتعاون.. لا جيل الفرقة والشتات.. أحقاً مات أبو سامر.. أحمد عمرابي (طحنية) ود حاجة زينب ابن الخليفة إسماعيل وأحد أبناء الأسر الأمدرمانية العريقة الكبيرة المعروفة التي تشربت بالقيم الطيبة والخلق النبيل والمثل العليا والمعاملة الحسنة. أخي أبو سامر.. لقد رأيت.. بل قررت أن أكتب عنك ونحن جميعاً غارقون في أحزاننا ليس لنا من فواق.. لقد رأيت أن أكتب عنك رغم أن الصدمة كانت فوق الاحتمال.. فالفاجعة أخرست الألسن وألجمت الأقلام.. لأؤكد لك حقيقة واحدة وهي لولا أن الموت حق.. لأنكرناه. أخي أبو سامر.. كل شيء في هذه الحياة يولد صغيراً ثم يكبر.. إلا المصيبة فتولد كبيرة ثم تصغر.. لكن مصيبتنا فيك ستظل كما هي.. ورغم أننا لا نقول ولا نفعل إلا ما يرضي الله.. إلا أن رحيلك عنا كان فاجعة أليمة.. ومصيبتنا فيك كانت كبيرة.. فكان خطبنا جللاً.. بل كان أكبر من أن يعبر عنه بالبكاء والنحيب.. مع كل ذلك رأيت أن أكتب عنك.. أكتب عنك قبل أن تستعيد الحياة دورتها ورتابتها.. وقبل أن تسكن الشجون وتهدأ الأحزان.. رأيت أن أكتب عنك وما زال الحزن مخيماً علينا.. بل مقيماً فينا وأنا لا أدري من أين أمسك رداء الحديث.. وماذا أكتب عنك.. وماذا أقول فيك.. الأخوة.. المحبة.. الصداقة.. العشرة.. الطيبة.. البسمة.. الزهد.. الوفاء.. الكرم والكثير الكثير.. بل الأكثر سمات متميزة وصفات متفردة.. يكفي أنك صاحب كريزما من نوع خاص.. مبادر بقول الحق مصادم من أجله.. تعطي ولا تمنع.. تجمع ولا تفرق.. تنصح ولا تحرج.. تستر ولا تنشر.. حتى أصبحت ملاذاً لكل من ضاقت به الحياة وادلهمت به الأمور.. الباحث عن البسمة الباردة الدائمة في هجير الشمس.. حقاً نشهد لك بعد رحيلك بأنك قد كنت مثالاً للشرف والأمانة والصدق والزهد.. بل كنت العابد الساجد الراكع.. بل كنت التواصل كله.. لو كان كل هذا زائداً الكرم والزهد والإيثار.. يمنع الموت لما مات أحمد.. وأخيراً يكفي أنك قد أديت دورك كأعظم ما يكون.. جسد توالت عليه الضربات والنكبات.. وقلب اتسع سنوات طويلة لحب الخير والحب.. لكن في الآخر ضاقت به الحياة فأسلم الروح حتى إذا ما دنت. إن الطبيب له في الطب معرفة ü ما دام في الأجل تأخير حتى إذا ما تمت أيام مدتها ü حار الطبيب وخانته العقاقير وأخيراً أخي أحمد.. ليس عندي إلا أن أقول لك.. حبيبك قد يأتي ولا يأتي.. وأن تختار بين أن تبقى وأن تمشي.. وأن تختار بين الحط والتسفار.. وبين الرسو والإبحار.. ولكنك ولكني حبيب الموت ومن أوفى من الموت.. فعهد الموت قد يأتي.