منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وفي العاصمة الأردنية عمان، حيث كنت أدير مكتب جريدة «الاتحاد» الإماراتية وأتابع الشؤون الفلسطينية إبان مرحلة التنسيق الأردني-الفلسطيني، وعودة النشاط السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى عمان بعد أن هجرت بيروت، إثر الغزوة الإسرائيلية عام 1982 التي قذفت بالمنظمة وفصائلها وكوادرها إلى تونس حيث كان مقر الجامعة العربية حينها، كنا ثلة من الصحافيين نلتقي كل أسبوع في رحلة سمر وتواصل بمزرعة الحاج محمود «أبو خالد» ذلك الشيخ السبعيني ذو الشعر الفضي، الذي كان واسطة العقد بيننا بروحه المرحة ومخزون ذكرياته الذي لا ينضب وقدراته الفريدة على «الحكي» وتصوير المواقف، كنا نجتمع عنده فيغدق علينا بكرمه الفياض أشهى أنواع الطعام من اللحوم الطازجة التي يتفنن أهل الشام عموماً في طهيها من «المنسف» البدوي إلى «القدرة» و«المسخَّن» الفلسطيني إلى «المزروب» الذي يدفن فيه الخروف كاملاً تحت الأرض بعد أن يفرش له ويُسيج باعواد الزيتون المحترقة. وكان الهم الفلسطيني وقضايا الاحتلال والأوضاع العربية المتردية هي الموضوعات الراتبة في ذلك الحوار بين الشيخ وأصدقائه الصحافيين، من أمثال أحمد سلامة وعبد المجيد عصفور وعبد الله العُتُوم ويوسف العبسي والمصور الصحفي يوسف العلاّن. كنت السوداني الوحيد بينهم، فجلهم من المهاجرين الفلسطينيين الذين استقروا في الأردن وحملوا جنسيتها أو من الأردنيين ذوي الأصول البدوية. وأذكر مرة، وبينما كان الحوار يدور حول واقع الاستسلام الذي تعيشه الأمة العربية بعد اتفاقات كامب ديفيد وكيفية مواجهة هذا الواقع الأليم، طرحت على اولئك الأصدقاء فكرة اعتبروها «خيالية»، وأثارت كثيراً من الهزر والضحك والاستغراب برغم استحسانهم لها، لأنها بدت لهم في ذلك الحين مستحيلة: قلت لهم ماذا لو تحركت جماهير الأمة العربية بالملايين وزحفت باتجاه فلسطين عزلاء وأغرقت تلك الملايين أرض فلسطين الصغيرة والمحدودة حتى فاضت بها، وأصرت على البقاء والتمسك بالأرض هناك. قد يقتل الصهاينة منهم أعداداً كبيرة ولكنهم لن يستطيعوا القضاء على كل تلك الملايين، كما لن يستطيعوا استخدام قنابلهم الذرية، لأنها ستقضي عليهم هم أيضاً وسط كل تلك الحشود المليونية المتقاطرة، والعالم من حولهم لن يسمح لهم «بمحرقة» كتلك المحرقة النازية، لأنها ستضر بمصالحه في هذه المنطقة الغنية بالنفط ومستودع الطاقة. المهم «الفكرة» تحولت في جلساتنا اللاحقة إلى «طرفة وملحة»، يتذكرها أصدقائي الأردنيون والفلسطينيون كلما التقينا في «مزرعة الحاج» أو في دار الأستاذ محمود الكايد رئيس تحرير «الرأي»، واعتبروها دليلاً على محبتي وتعلقي بفلسطين و«القضية». ومرت السنين والعقود وهي أنا ذا اليوم أرى أن تلك «الفكرة الخيالية» أو «الحلم المستحيل» تدرج على الأرض في ذكرى «النكبة الأولى» -14 مايو (أيار) 1948- وذكرى النكسة أو (النكبة الثانية)-5 يونيو (حزيران) 1967، التي صادفت يوم أمس الأول (الأحد). فحينها لم يكن من بين أصدقائي الأعزاء اولئك من يفكر أو يحلم بأن واقع الأمة والنظام العربي القائم قابل للتغيير، كان اليأس طاغياً والكل يعتقد أن ذلك الواقع دائم ومستمر ولا سبيل إلى تبديله في ظل موازين القوى القائمة على الأرض والعلاقات الوطيدة بين الأنظمة العربية والقوى الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة والدول الغربية الراعية لإسرائيل والحامية لتلك الأنظمة. في ذكرى النكبة الأولى أو «يوم الأرض» تقاطرت الجماهير في مسيرات سلمية إلى حدود فلسطينالمحتلة من جنوب لبنان ومن الجولان وإلى «الكرامة» الأردنية القريبة من غور الأردن ومن مصر حتى رفح على حدود غزة، وعبرت عن سخطها ورفعت شعارات العودة والتحرير، وكان ذلك فعلاً حراكاً جماهيرياً أزعج إسرائيل وقادتها كما لم ينزعجوا من قبل، وفتح عيونهم على الخطر الحقيقي الذي يتهدد دولتهم طال الزمان أم قصر. أدركوا حينها أن من كان يحمي أمن إسرائيل ليس قوتها المدفعية أو الصاروخية أو طائراتها الحربية أو قنابلها الذرية، إنما هي الأنظمة العربية الخائفة والمتواطئة التي جعلت من «إسرائيل وقضية فلسطين» ذريعة لديمومة حكمها وفزاعة أمام كل حراك جماهيري مطالب بالتغيير. حتى جاء الربيع العربي وأطاح ببعض أعتى تلك الأنظمة البوليسية وأطلق عنان الجماهير الثائرة، التي رأت أن واجب إسقاط الأنظمة، لا يقل أهمية عن واجب تحرير فلسطين واستعادة القدس، فتحركت في «يوم الأرض» إلى الحدود وأعادت الكرة في «ذكرى النكسة» من الجولان، حيث سقط العشرات برصاص العدو، ومن الضفة الغربيةالمحتلة حيث واجهت قوات الاحتلال المتظاهرين السلميين بالرصاص المطاطي وغاز الفلفل والغازات المسيلة للدموع. لكن يبقى سؤال، لماذا سمح النظام السوري، على وجه الخصوص، الآن بالتحرك الجماهيري باتجاه الجولان، بعد أن كان ذلك من الممنوعات؟ المراقبون يعتقدون أن السبب وراء ذلك هو «زنقة» النظام بفعل الانتفاضة الشعبية السورية، التي تطورت من المطالبة بالإصلاح لتلامس سقف الدعوة بإسقاط النظام، ولكن مهما كانت الدوافع يبقى الفعل الجماهيري والعقل الجمعي لاولئك المندفعين باتجاه الجولان من السوريين والفلسطينيين هو الهدف الأسمى والإنذار الأبلغ لإسرائيل بأن يوم التحرير آتٍ وقريب. لفت نظري أيضاً، غرابة الموقف الذي اتخذته سلطة حماس في غزة حيث منعت تسيير المواكب والتظاهرات إلى الحدود مع الأراضي المحتلة، ما استدعى الفصائل الفلسطينية أمس الأول إلى عقد اجتماع ناقشت فيه أسباب هذا المنع ودواعيه، واستنكرت وشجبت موقف حماس الذي عدتهُ تخذيلاً للجماهير في وقت تتصاعد فيه حركة الشارع العربي في كل مكان، وفي وقت المصالحة الوطنية الفلسطينية والوحدة الوطنية، كما أشار إلى ذلك القيادي بحركة الجهاد الإسلامي نافذ عزام، وأيدته في ذلك الدكتورة مريم أبو دُقة عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية التي نددت بمنع الأجهزة الأمنية في غزة خروج المسيرات الجماهيرية في ذكرى «نكبة حزيران»، لكنه منع يؤشر في كل الأحوال إلى «العقلية الشمولية» والسلفية لقيادة حماس التي تعمل بروح الوصاية على الجماهير، تحركها وتقاتل بها متى شاءت هي وتمنعها متى شاءت أيضاً، حتى لو كان ذلك من أجل التعبير على رفض الاحتلال والمطالبة بالتحرير!