أكثر ما شد انتباهي في بيان المجلس الأعلى للتصوف حول آراء الترابي التي ادعى فيها عدم عصمة الأنبياء، وأنكر فيها مشروعية الصلاة على النبي محمد صلي الله عليه وسلم هو أنه صيغ في كلمات قوية وعبارات شديدة اللهجة، ويمكن القول إن هذه هي المرة الأولى التي يوجه فيها قادة التصوف بالبلاد مثل هذا النقد اللاذع لشخصية(دينية) سودانية ويصفون صاحبها بأنه أساء الأدب مع النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأنه محرف لكلام الله عز وجل، وكاذب على رسوله الأمين، وأنه يشكك في الدين وأن النفاق قريب منه، وأنه يبتغي جذب الأضواء اليه، وأنه فقد بوصلته وأخذ يهرف بما لايعرف وأنه تطاول على الأنبياء ليضلل الناس، واختتم المجلس بيانه بدعوة الترابي الى مناظرة علمية على الملأ.ومجلس التصوف ما كان ليقول ما قال في الترابي لولا أن الأخير قد(شطح) هذه المرة بما لا يمكن السكوت عليه لا من أهل التصوف وحدهم، وإنما من كل من أسلم وجهه لله وهو مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولا يفرق بين أحد من رسله، ويوقر الرسول صلى الله عليه وسلم ويعززه ويؤمن بأنه لا ينطق عن الهوى، وأن ما يقوله ويفعله هو وحي يوحى وأن مكانته عند الله عظيمة. وما يستحق الوقوف عنده والتأمل فيه بإمعان هو رد الفعل الغاضب والحاد من جانب المجلس الأعلى للتصوف، ذلك أن الصوفية معروف عنهم التسامح وسعة الصدر وقوة التحمل، وتنتفي في حقهم صفات التشدد والتطرف، والتنطع في الدين، ويتسم حديثهم وحوارهم مع مخالفيهم باللين والرقة والقول الحسن، ولا يميلون الى الإساءة أو التنابذ بالألقاب، ودائماً ما يحتفظون بشعرة معاوية مع مخالفيهم تأسياً وتأدباً بالآداب الرفيعة للدين الإسلامي، وهم حريصون جداً على عدم مصادمة أهل السلطان والسياسيين ما داموا يرفعون لواء الدين، ويقيمون الصلاة ولا يمنعون الناس العبادة، ولا ينهونهم عن ممارسة شعائر الإسلام، ويميلون نحو الزهد والتقشف، ويجدون راحتهم في الذكر، وتاريخهم ومواقف عدد من شيوخهم من الأولين والآخرين تشهد بذلك.ولأن شطحة الترابي هذه المرة كانت من العيار الثقيل فقد جعلت قادة التصوف ومشائخه يخرجون عن (مسارهم)، الذي إلتزموه طوال تاريخهم والذي أشرنا اليه آنفاً، ولهم الحق في ذلك ولا ملامة عليهم فيه ولا تثريب ونوافقهم الرأي فيما قالوا، فقد تخطى الرجل المثير للجدل دائماً كل الخطوط الحمراء، فتعدت جرأته على (السلطان)- كما يحلو له أن يقول- الذي يصفه في ملئه الخاص وأحياناً على الملأ وعلى رؤوس الأشهاد بالطاغية، تعدت جرأته هذا إلى أنبياء الله ورسله، فوصفهم بعدم العصمة وأنكر الصلاة على أشرف المرسلين بالصيغة التي كان يصلي بها الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم، وما زلنا نصلي بها حتي يومنا هذا والى أن تقوم الساعة.الترابي ينكر العصمة عن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، ويأتي بخطرفات فلسفية جوفاء ليفسر بها كلام الله الذي أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته فقال (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) والله هو الذي وصف خُلُق النبي صلي الله عليه وسلم فقال (وإنك لعلي خُلُقٍ عظيم)، ولم يناده باسمه قط في القرآن عكس سائر الرسل والأنبياء الآخرين، وحرّم على المؤمنين مناداته باسمه تعظيماً لشأنه، وتربيةً لأصحابه وتعليمهم التأدب معه، وحرَّم عليهم الجهر له بالقول، أو رفع أصواتهم في حضرته صلي الله عليه وسلم، ونهاهم عن الإنصراف عن مجلسه دون استئذانه، وحرم عليهم التفكير في نكاح أزواجه من بعده، وجعل أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهاتهم، وهو القائل(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).. وهو القائل (يسü والقرآن الحكيمü إنك لمن المرسلينüعلى صراط مستقيم* تنزيل العزيز الرحيم) وهو القائل عن رسوله الكريم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) وكثيرة هي الدلائل والبراهين من القرآن والسنة، على أن الله قد عصم رسوله، فهو لا يخطئ ولا يقارف الذنوب والمعاصي، كما يفعل سائر البشر، وكلامه وأفعاله كلها وحي يوحى، بل إن الله كرمه بالعصمة من الناس، فلم يستطع أحد من صناديد الشرك والكفر من الجن والإنس أن يصيبه بسوء، رغم أنهم خططوا لذلك مراراً وتكراراً وحاكوا المؤامرات لإخراجه أو قتله، وقد كان كفار قريش ومعهم المنافقون يتربصون به الدوائر، وكان المؤمنون يحيطونه بحراسة مشددة ومتواصلة، فلما أنزل الله (والله يعصمك من الناس) صرف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحراس عنه، وأخبرهم بأن الله عاصمه من الناس فلم تعين له حراسة بعدها أبداً.إن الخطأ الفادح الذي وقع فيه الترابي أنه خاض في لجة لا قبل له بها، بحديثه غير اللائق في حق النبي صلي الله عليه وسلم والانبياء من قبله، في بلدٍ يوقر أهله الرسل والأنبياء عامة، والنبي محمد صلي الله عليه وسلم خاصة، ومن عجب فإن الترابي يقول مثل هذا القول وهو زعيم حزب ينادي بتطبيق الدين والشريعة في حياة المجتمع، ويسعى ليل نهار وبدأب إلى جمع الناس من حوله، ودعوتهم للإنخراط والإنضمام الى حزبه الذي يسميه بالشعبي، ويضع له برنامجاً إسلامياً، ويقدم نفسه بديلاً للمؤتمر الوطني، الذي حسب ما ظل يردد أنه قد حاد عن المنهج الرباني، وضل عن طريق الهدى والرشاد، فإذا به يأتي بأقبح مما رمى به المؤتمر الوطني، ولا أدري كيف غاب ذكاء الرجل عنه ليوجه ضربة قاضية لمستقبل حزبه بهذه الطريقة، وفي هذا التوقيت، وبهذا الإدعاء الغريب، الذي لا معنى له، والذي فاجأ به منسوبي حزبه قبل غيرهم، وأدخل كثيراً من قادة الحزب وقواعده في حرج بالغ، ومأزق لا يحسدون عليه. إن على العقلاء في المؤتمر الشعبي إذا كانوا جادين في الإستمرار تحت مظلة حزبهم هذا، وصولاً الى هدفهم المعلن، وهو تطبيق الاسلام في الحياة العامة، وفي الدولة، أن تكون لهم وقفة جادة وحاسمة إزاء ما ظل يهرف به من وقت إلى آخر كبيرهم هذا، الذي إذا ما استمر في (إتحاف) الناس من حين إلى آخر بمثل هذه الفلسفات الطاعنة في الدين فسينتهي به الحال إلى ما إنتهى اليه محمود محمد طه، والله غالب على أمره.