الحديث عن المليارات التي هرّبها واكتنزها بعض الرؤساء الذين ثارت عليهم شعوبهم يقودنا إلى الحديث عن الرؤساء الشرفاء.. وأول هؤلاء الرؤساء الفقراء الذين عاشوا حياتهم في بساطة متناهية أول رئيس لمصر اللواء محمد نجيب- واللواء محمد نجيب سوداني رغم أصول والده الضابط يوسف نجيب المصرية فهو من بلدة النحارية إحدى قرى محافظات الدلتا في مصر.. هذه هي جذوره المصرية وأصوله في وادي النيل.. ووالدته سودانية من قبيلة الجعافرة في بربر وذات قرابة بأهلنا آل برسي وآل عبد الله حسن.. بل هي شقيقة السيد عبد الله حسن والد عمنا الزعيم أحمد عبد الله حسن رئيس الحزب الوطني الاتحادي بالدامر- ولنا بالرئيس نجيب صلة وعلاقة مصاهرة وهي التي ربطت بين عمنا الطيب واللواء علي عبد الله حسن وهو متزوج من شقيقه اللواء محمد نجيب وأولاده الآن يشغلون عدداً من المواقع في مصر.. والرئيس نجيب وفق قانون الجنسية السودانية لسنة 1957 سوداني بالميلاد، لميلاده في السودان من أبوين مقيمين كمواطنين في السودان في أو قبل 31/12/1897 وحافظا على الإقامة فيه، حيث كانت أسرة نجيب كغيرها من الأسر السودانية التي جمعت بين الأصول المصرية والسودانية حتى وفاتهما فيه.. وهي من الأسر التي هي الآن من صميم المجتمع السوداني بل ومن رموزه الكبيرة والباهرة والمشرقة.. وقد ظل أهلنا على صلة به قبل الثورة وبعدها في منزله في الحليمة- بل خرج من منازل أهله وأهلنا في الدامر مهاجراً إلى القاهرة في مطلع عشرينات القرن الماضي كغيره من شباب هذا الوطن.. ذلكم الشباب الوطني الطموح المناضل للتحرر من ربقة الاستعمار البريطاني.. وكان نجيب آنذاك طالباً في كلية غردون التذكارية.. ولكنه هجر كل ذلك وهاجر إلى مصر كغيره من أبناء السودان حيث التحق بالكلية الحربية التي سبقه إليها عدد من أبناء الزعماء السودانين.. كالفريق عبد الله عبد الرحمن النجومي نجل القائد العظيم أمير أمراء المهدية الجعلي النفيعابي.. والعمرابي عبد الرحمن النجومي- وكالشاعر محمد سعيد العباسي.. نجل الشيخ محمد شريف نور الدائم بن الشيخ الطيب أحمد البشير والذي آثر لميوله الأدبية العالية الاتجاه إلى الأزهري الشريف ودراسة ما يناسب ميوله ومحتده العلمي الصوفي الشريف. وإذا تحدثنا عن زعماء مصر- الذين رحلوا عن الدنيا وهم لا يملكون من الدنيا شروى نقير، الزعيم بطل العروبة جمال عبد الناصر الذي مات وهو لا يملك بيتاً لأسرته.. بل ظل يقيم في المنزل الصغير المملوك للجيش والذي سكن فيه قبل الثورة وهو بعد برتبة البكباشي وعندما زرت ذلك المنزل بعد وفاته دهشت لبساطته وتواضعه.. والبرندة الخشبية التي نرى صورتها الآن في مباني الري المصري في الشجرة.. مات الرجل وفي حسابه بضع جنيهات.. وعدد من الديون للسكن المتواضع.. الذي اشتراه بالتقسيط من مرتبه ليكون مأوى لكريمتيه بعد زواجهما.. حيث قام الورثة بسداد ما تبقى بعد ذلك وإخلاء البيت الحكومي المتواضع وتسليمه كعهدة للدولة.. وآخر من كان يقيم فيه زوجته وقد تقدمت بها السن وسلم بعد وفاتها. وقد رأيت عبد الناصر، ونحن بعد طلاب لدراسة الحقوق بالقاهرة.. يستعمل في تحركاته من منزله في منشية البكري إلى مكتبه في عابدين.. يستعمل عربة قديمة سوداء من طراز ليموزين.. وليس أمامه حرس أو موكب.. بل يركب هو السائق وياوره إلى جوار السائق وزجاج العربة مفتوح.. وكثيراً ما يقف في الإشارة فيحي الجماهير وجموع العابرين.. ويرفع يده محيياً من ينظرون إليه.. وكنت أقف أحياناً أمام قهوة أسترا التي كانت ملتقى للمثقفين في ميدان التحرير لأرى هذا المنظر. لقد كانوا فقراء ولكنهم أغنياء بصورة لا تصدق بعفتهم وإيمانهم.. وحب وتقدير الناس لهم كخدام شرفاء.. يعرفون أن مال الدنيا لا يعادل الرسالة التي يقومون بها.. والمجد الذي يعكفون على بنائه.